فاصلة

مراجعات

«محض لقاء»… شعرية الصلات العابرة

Reading Time: 5 minutes

 خلال 12 دقيقة هي مدة الفيلم، استطاع المخرج السعودي محسن أحمد أن يقدم لنا درسًا متقنًا في البساطة السينمائية. 

في «محض لقاء»، وبأسلوب يستدعي الصرامة والتقشف اللذات عرف بهما أسلوب روبير بريسون، وتقاليد «سينما الشعر» أو «السينما الشعرية» التي بلورها بيير باولو بازوليني في مقاله الشهير عام 1965. 

يتميز الفيلم بتقشف لافت، يُنسج المخرج سرده البصري مستخدمًا لقطات ثابتة موجهًا ممثليه لأداء داخلي مشدود، وتلاعب مدروس بين مشاهد بالأبيض والأسود وأخرى بألوان طبيعية، وثالثة بتدرجات لونية موحدة (مونو- كولور). يتوارى خلف هذا الصفاء الظاهري تعقيد داخلي عميق، يعكس إيمانًا بأن السينما كي تبلغ جوهرها، ينبغي أن تتجرد من الزخرف والسرد المباشر. 

في «محض لقاء» تؤدي كل صورة وكل قطع بين اللقطات وكل صوت وظيفة محددة بدقة، ملتزمًا بوصية تُقر أن السكون والصمت يحملان من البلاغة ما يعجز عن تقديمه الثراء البصري والحركي.

محض لقاء
فيلم محض لقاء

لا تمتلئ المشاهد هنا بالصوت أو الحركة، بل تتحول فترات الصمت واللقطات الثابتة إلى نسيج سردي مستقل، يضخ الحياة في لقطات الفيلم بصمت. ومن خلال هذا الاقتصاد الشديد في استخدام وسائل التعبير السينمائية، تصبح البنية السردية نفسها هي النص الذي يقود المتلقي إلى تأمل جوهر المشهد الإنساني المرهف.

من خلال إيقاعه المنضبط وأسلوبه الزاهد، يُبقي فيلم «محض لقاء» مُشاهِدَه على مسافة، داعيًا إياه إلى التأمل بدلًا من الانخراط العاطفي السريع. حيث يؤخر المخرج استغراق المشاهد عاطفيًا في فيلمه القصير مستخدمًا التصوير الفوتوغرافي والنبرة الرصدية الهادئة، خالقًا استجابة أعمق وأكثر صدقًا لدى المشاهد المتأمل. 

يستدعي هذا الجمال القائم على الصبر والدقة ما وصفه بول شريدر بـ «الأسلوب المتسامِي» حيث ينبثق المعنى الشعري من صور يومية بسيطة. يثق المخرج في شعرية الشكل لحمل روح الفيلم.

ينسج «محض لقاء» تحت سطحه البسيط، قصة إنسانية مشحونة بالمشاعر المختلطة. الفرضية بسيطة على نحو خادع: ترتاد شابة مقهاها الهادئ بحثًا عن إلهام إبداعي، ولكن روتينها يتعكر عندما يجلس رجل غامض في الزاوية المقابلة. غريبان – امرأة ورجل – لا يعرف أحدهما الآخر. يتطور لقاؤهما بتحفظ؛ نظرات مسروقة وصمت محرج، ثم ابتسامة خفيفة تفتح الباب لحوار محتمل. وما يلي ذلك هو حوار عابر بدون أي كلام.

لا توجد تحولات درامية كبرى هنا، بل دراما خفية للاتصال الإنساني تتوهج في الزمن الحقيقي. وعلى قصر زمنه، ينجح اللقاء في خلق عالم مصغر يحتضن طيفًا كاملًا من التجارب الإنسانية: من بوح مكبوت، إلى حنين لِما لم يُعش، إلى بزوغ أمل خافت وسط العتمة. يحوّل المخرج ببراعة شديدة لحظة عابرة في مقهى إلى استعارة مكثفة عن اشتياقات الحياة، وانكساراتها، وآمالها المؤجلة.

فيلم محض لقاء
فيلم محض لقاء

يوحي الفيلم بأن بعض اللقاءات العابرة قد تترك أثرًا أعمق في الروح من علاقات استمرت لسنوات، فغياب الأحكام المسبقة بين الغرباء يسمح بحدوث لحظة صدق خالصة. وما يبدأ كمقاطعة محرجة في المقهى يتحول، بين يدي المخرج، إلى لحظة خاطفة تفتح نوافذ الإلهام، سواء للمرأة الشابة داخل القصة أو لنا كمشاهدين، حيث نشهد كيف أن لقاءً عشوائيًا قد يشعل شرارة كشف شخصي.

يحافظ الفيلم بابتعاده عن السرد الخلفي أو الحبكات الجانبية الخارجية على نقائه الموضوعي: هو فيلم عن هذا اللقاء فقط، بكل آنية حضوره. يعكس هذا التوجه البساطة السردية للأفلام القصيرة الكلاسيكية واللوحات السينمائية حيث يغيّر لقاء وحيد كل شيء.

يطرح «محض لقاء» بطريقته الهادئة أسئلة عميقة تظل دون إجابة: من نحن لبعضنا البعض وسط غموض المدينة؟ هل يكشف لقاء عشوائي بين غرباء عن حقائق عن الحياة نخفيها حتى عن أنفسنا؟ يترك الفيلم هذه الأسئلة معلقة بطريقة شعرية، ممتنعًا عن تقديم إجابات تلقينية – في انسجام مع تقاليد السينما الفنية التي تثق بقدرة الجمهور على استخراج معانيهم الخاصة.

بصريَا، يستخدم فيلم «محض لقاء» صورًا غنية وشعرية، تنطق بالكثير دون الحاجة للكلمات. ينسق المخرج ومدير تصويره رقصة بالمونو كولور المائل إلى الزرقة التي تشير إلى الليل، في استعارة واضحة من التعبيرية الألمانية، لتعكس بداية الإيقاعات العاطفية للقصة.
تُقدَّم اللحظات الأولى في المقهى عبر تصوير أحادي اللون، حيث تغمر الرماديات الناعمة والظلال الحادة أجواء المكان الهادئ. تظهر المرأة الشابة شبه معزولة داخل الإطار، كشخصية وحيدة في مواجهة خلفية مبسطة. ويضفي استخدام الأبيض والأسود على هذه المشاهد طابعًا وثائقيًا واقعيًا مقرونًا بهالة خفيفة من الحنين، وكأننا ننظر إلى صور فوتوغرافية قديمة للوحدة. يحضر إلى الذهن تحليل أندريه بازان للتصوير الفوتوغرافي الذي «يحنط الزمن، وينقذه ببساطة من فساده الطبيعي». إذ تُحنط لقطات الفيلم بالأبيض والأسود لحظة عابرة من مساء وحيد، وتحفظ مزاجها بإخلاص فوتوغرافي.

هذا الاستخدام الدقيق للألوان ليس مجرد عنصر جمالي، بل هو أداة سردية. إذ يصنع التنقل بين الأبيض والأسود والألوان تباينًا بصريًا بين حالتين ذهنيتين: تعكس اللقطات الأحادية الجمود العاطفي الأولي للبطلين، وحياتيهما اللتان أفرغهما الروتين والوحدة من ألوانهما، بينما تشير الألوان إلى ضخ الحياة. 

تستحضر هذه التقنية تقاليد السينما الفنية الكلاسيكية التي استخدمت الألوان رمزيًا (أفلام فيم فندرز المبكرة التي تعبر عن التجربة الذاتية). يستخدم المخرج هنا الألوان بطريقته الخاصة: ليس كتأثير صارخ، بل كأداة شعرية منسوجة بهدوء في نسيج الفيلم.

يفضّل المخرج الكاميرا الثابتة، ويضعها موضع المراقب للشخصيات ضمن مشاهد مركبة بعناية. غالبًا ما يتم تأطير الشخصيتين الرئيسيتين في المقهى في لقطات واسعة تبرز الفراغ بينهما، ذلك الهواء الفاصل بين غريبين. ويُبرز خلو المقهى مركزية الشخصيتين من هذه المسافة. 

هناك لمسة من وحدة إدوارد هوبر البصرية هنا – قد يتبادر إلى الذهن لوحته الشهيرة Nighthawks، مع رواده المنعزلين في فضاء عام ليلي. وكما في لوحة لهوبر، يستخدم المخرج هندسة المكان (الطاولة، ضوء النافذة، ترتيب الكراسي والطاولات) ليعكس المسافة العاطفية بين الشخصيات. ومع تطور الفيلم وبدء الشخصيتين بالتواصل، يتغير التأطير بشكل طفيف: ينتقل المخرج إلى لقطات أقرب لقطات مقربة متبادلة تلتقط تعبيرات وجهيهما الدقيقة. ينقل هذا التغيير البصري بلطف تقلص المسافة العاطفية. من دون أي خدعة كاميرا صريحة، يروي الفيلم بصريًا القوس العاطفي من الانفصال إلى الاتصال إلى الإنفصال. 

محض لقاء
فيلم محض لقاء

بطريقته اللطيفة وغير المتباهية، يعلن «محض لقاء» عن نفسه كمتعةٍ حقيقية لعشاق السينما. فهو فيلم قصير يكافئ المشاهدة الصبورة والانتباه الدقيق بشبكة غنية من المعاني والعواطف.
يُظهر المخرج، في ثاني أفلامه، تحكمًا ناضجًا بشكل ملحوظ بلغة السينما، يصوغ عملًا يقف بوضوح إلى في صف السينما الشعرية، وهذه المرة من خلال شعرية العادي التقاط لقاء عابر في مقهى وكشف العمق الخفي فيه.في غضون اثنتي عشرة دقيقة فقط، يخلق تجربة سينمائية تدور حول الإحساس بمرور الزمن كما تدور حول الحكاية السردية. وهذا يتماشى مع فكرة جيل دولوز عن بعض الأفلام التي تتجاوز «صورة الحركة» إلى «صورة الزمن»، مما يقود المشاهدين إلى حالة من التأمل العميق. 

يشعر المشاهد بغصة في الحلق عندما تُتلى القصيدة الختامية، ليس بسبب مأساة ظاهرة أو قصة حب درامية، بل لأن الفيلم يلامس بهدوئه حقيقة عميقة عن الوجود الإنساني هي أن حياتنا كثيرًا ما تتشكل عبر لقاءات خاطفة حافلة بالصدفة، وعبر لحظات هشة من الانفتاح الذي قد نجده أحيانًا مع غرباء.

لا يضيف المخرج فقط عملًا مميزًا إلى مهرجان أفلام السينما السعودية، بل عملًا يذكرنا بقوة السينما الفريدة في التقاط الزائل وكشف الأبدي.
يؤكد الفيلم في النهاية، أن شعرية السينما لا تزال حية، تجد تعبيرًا جديدًا في أماكن غير متوقعة – مثل مقهى هادئ في مكان ما في هذا الكوكب، بعين مخرج يؤمن أن لا تفصيل مهما صغر يُترك للصدفة، تنسج كل لقطة بعناية بالغة، حيث يتساوى وقع الأشياء الصغيرة والكبيرة في تشكيل المعنى الكلي. 

وهذا ما يقدمه محسن أحمد، مخرج «محض لقاء»: سينما رهيفة تفتح نوافذ الإلهام على الحياة اليومية، وتحثنا أن نعيد اكتشاف العالم بعين شاعر وعدسة سينمائي. الفيلم بشكل أو بآخر تحية للسينما بحالتها الجنينية. 

اقرأ أيضا: خمسة أفلام قصيرة من مهرجان أفلام السعودية 11: قراءة نقدية (2)

شارك هذا المنشور

أضف تعليق