فاصلة

مراجعات

“مجتمع الجليد”… من يدفع الثمن الغالي للنجاة؟

Reading Time: 4 minutes

كان يومًا خريفيًا مشمسًا، اجتمع فيه أصدقاء وعائلات لاعبي الفريق الوطني لهواة الرجبي لدولة أوروجواي، لوداعهم في قاعدة عسكرية ستنطلق منها الطائرة الحربية التي تقل الفريق إلى بطولة العالم المقامة في دولة شيلي، لكن تلك الدقائق المشمسة كانت آخر ما اختبره اللاعبون من دفء قبل أن تتحطم طائرتهم على صخور جبال الأنديز، ليخوض من تبقى منهم على قيد الحياة صراعًا وحشيًا للبقاء وسط ثلوج الجبال الشاهقة. 

هذه الواقعة التي جرت في خريف 1972، هي موضوع فيلم مجتمع الجليد  Society of Snow الذي يعرض حاليًا على نتفليكس، وهو مأخوذ عن كتاب يحمل الاسم نفسه قدم القصة الحقيقية لنجاة من بقوا على قيد الحياة بعد تحطم الطائرة من خلال الشهادات التي جمعها الصحفي بابلو فيريتشي، الذي تصادف أنه صديق طفولة عديد من هؤلاء الناجين.

 تحول الكتاب إلى فيلم أخرجه خوان أنتونيو بايونا الذي بات مختصًا في الأفلام المبنية على وقائع حقيقية لكوارث طبيعية وبشرية يمر فيها الناس بأصعب اختبارات البقاء. فقد أخرج بايونا من قبل فيلم “المستحيل” The Impossible عام 2012 المأخوذ عن تجربة طبيبة إسبانية وجدت نفسها وعائلتها وسط تسونامي تايلاند في عام 2004. 

تتميز أفلام بايونا بأنه لا يكتفي بالإبهار البصري الخاص بمشاهد الكوارث، وإنما يركز بالأساس على التجربة الإنسانية في مواجهة الكارثة وهو ما يظهر بقوة في فيلمه الجديد “مجتمع الجليد” الذي نتناوله في هذا المقال. ففي مواجهة الموت الذي يكاد يكون محققًا؛ نتابع الأثر النفسي الساحق الذي تحمله كارثة تحطم الطائرة والعزلة في الجبال المصمتة الخالية من الحياة، وما يفعله ذلك كله في أرواح وعقول من لم يموتوا من فورهم.

مجتمع الجليد

لكن قبل وقوع الكارثة، صور الفيلم أبطاله في إطار شاعري شبيه بالحلم في مشهد توديع العائلات في المطار، حيث تسطع أشعة الشمس أقوى من أي لون، والروح والمعنويات كأنها لفريق ينتظر تتويجه ببطولة طال انتظارها. كل ذلك أعد المشاهد نفسيًا للتجربة الساحقة لأرواح هؤلاء المحتفلين المتفائلين كما سيتابعها خلال أحداث الفيلم. 

هذه النقلة العنيفة أتت من خلال المشهد الصاعق لتحطم الطائرة، فالمُشاهِد قد يعتقد أن تحطم الطائرة هو حدث معزول بذاته ولا يمكن تجزئته لتفاصيل أكثر، ولكن الفيلم لا يتهرب من تصوير هذه التفاصيل المهيبة: التحطم التدريجي للطائرة، تطاير الركاب بشكل عشوائي، الكم الهائل من الفزع الذي يغمر البقية، وحتمية الهلاك الذي لا يعطيك فرصة لتكوين فكرة أخيرة قبل خسارة حياتك.

كبشر لدينا غرور طاغٍ، يدفعنا لتصور أن حيواتنا سوف تنتهي بشكل مرسوم بدقة وأن الموت لن يطرق بابنا قبل موعده، وننسى أننا بنفس هشاشة أي كائن حي آخر.

بعد انتهاء مشهد التحطُّم، نرى تباينًا واضحًا بين التصوير داخل الطائرة وبين المحيط الخالي حولها: داخل الطائرة، تتعالى الأصوات بين صراخ وبكاء وضحك نادر؛ بينما خارجها، هناك هدوء مقبض يخيم على المكان، كثبان ثلجية على مد النظر، والطائرة التي كانت تحمل العديد من الركاب لا تتعدى كونها نقطة من السواد في محيط أبيض. 

لكن الأحداث الحقيقية للفيلم تبدأ حينما تستقر الأوضاع ويواجه الركاب الحقيقة المرة؛ هم وحدهم في مواجهة موت يكاد يكون حتميًّا.

يطرح الفيلم تساؤلات مهمة عن الإنسانية، والموت، وكيفية تكون المجتمعات. هل من المبرر أن نتقاسم التهام أجساد موتانا حتى لا نموت جوعًا؟ أم أننا نحتاج إلى إذن هؤلاء الموتى؟ هل الجزارون عبارة عن أفراد جشعين احتاجوا إلى الظروف المواتية فحسب حتى يكشفوا طبيعتهم؟ أم أنهم أبطال شجعان اختاروا المهمة الصعبة حتى يتسنى للبقية ممارسة حياتهم بدون أن تثقلهم ضمائرهم؟ وفوق كل ذلك، هل الاستمرار بالقتال ومحاولة النجاة سوف يجدي في نهاية الأمر؟ أم أنه طريق أطول وأصعب لموت محتوم؟

مجتمع الجليد

الأهمية في طرح مثل هذه الأسئلة تكمن في عدم اختزال تجربة الركاب في قالب معزول، إذ لم يصارع الركاب من أجل نجاتهم فحسب؛ بل صارعوا من أجل إنسانيتهم. 

كلنا نعتقد أننا تحت ظروف قاسية سوف نفعل كل ما في وسعنا للنجاة، لكن تصبح النجاة مفهومًا غريبًا حينما يتطلب الأمر التهام من قد يكون أحد أفراد عائلتك. هل تنجو بنفسك فعلًا حينما تقتات على لحم بشري لشخص تعرفه؟ كيف يتعافى المرء من ذلك؟

صورة للاعبين الحقيقيين
صورة للاعبين الحقيقيين

الأداء التمثيلي ممتاز إجماليًا، وهو أمر مبهر كون الطاقم يتكون من العديد من الممثلين الشبان. ويدرك المخرج أهمية جودة الطاقم التمثيلي لأن العديد من  المشاهد تركز على تعبيرات الوجه المتهالكة التي يجتمع فيها براعة قسم المكياج، والمؤثرات، وبراعة التمثيل عبر النظرات الخالية من الأمل النابعة من موت مطبق على الأبطال من كل الجهات.

أحد النواحي التي كان يحتاج الفيلم إلى تطويرها هي العلاقة التي تربط اللاعبين، من خلال قضاء وقت أطول معهم قبل الحادثة، كان ذلك مهمًا للارتباط معهم بشكل أعمق وفهم طبيعة العلاقة بينهم. في بداية الفيلم كان هناك مشهد جميل بين صديقين وأحدهما يحاول إقناع الآخر بمرافقتهم على متن الرحلة، ولكن بسبب كثرة الشخصيات وتقارب الأعمار تداخلت الشخصيات سويًّا ولم يصبح هناك وزن حقيقي لفقدان بعض الركاب ومعاناتهم.

وبرغم تعمق الفيلم في الحالة النفسية المظلمة التي تعيشها الشخصيات، إلا أنه يكافئ المشاهدين بتدفق مهيب للمشاعر في المونتاج المخصص لاكتشاف الركاب وإنقاذهم، تتلاشى كل التساؤلات الوجودية الصعبة، كل أحاسيس الذنب وأفكار الاستسلام وتبقى فرحة خالصة لا يمكن احتواؤها بمجرد صراخ ودموع فرح. لكنها تتلاشى بشكل مؤقت، لأنه في اللحظة التي يخيم فيها الهدوء على أبطالنا، وفي أثناء غمرهم بمشاعر فرح العامة ومعاملتهم كأبطال قوميين وسط استغرابهم، تعود تلك التساؤلات ومشاعر الذنب لالتهامهم تدريجيًّا.

اقرأ أيضا: عام عودة العمالقة والكائنات الخرافية… هذه الأفلام تنتظرك في 2024

شارك هذا المنشور