بعد غياب امتدّ 7 سنوات عن الساحة السينمائية، تعود المخرجة الاسكتلندية لين رامزي إلى مهرجان كانّ (13 – 24 مايو) بفيلم نفسي جديد بعنوان «مت يا حبيبي» معروض في المسابقة. العمل، المقتبس من رواية للكاتبة الأرجنتينية أريانا هارفيتش، مُحمَّل بتوقيع رامزي البصري المتفرّد: حكاية مُثقلة بالقلق الوجودي، وعالم داخلي يتشظّى على الشاشة. لا حدود بين الأشياء.
يمكن تلخيص الفيلم بجملة: زوجان، أحدهما يُجسّد الإنسان «الطبيعي»، والآخر غارق في فوضى عقلية ونفسية عميقة. إنهما جاكسون وغرايس اللذان ينتقل وضعهما من الزوجين المثاليين إلى مواجهة مفتوحة تشي بالجنون والهستيريا والبارانويا. فهل يمكن التعايش بين العقل واللاعقل؟ أيتصالح الإنسان مع جزء من ذاته ينكر وجوده أو يخشاه؟ هذا السؤال البسيط والمركّب في آن معًا، تحمله لين رامزي إلى الشاشة بنصّ سينمائي يحوّل الحالة النفسية لشخصية غرايس إلى تجربة واقعية مشتركة مع المتفرّج، كما لو كانت تحاول أن تختصر سنوات من العلاج النفسي في ساعتين من السينما المكثّفة.
تتعاون رامزي هذه المرة مع جنيفر لورنس، التي تجسّد شخصية غرايس، امرأة تنغلق على نفسها في عزلة ريفية مع زوجها (روبرت باتينسون) وطفلهما. لكن الصورة الهادئة التي تفتتح الفيلم سرعان ما تتداعى، لتكشف عن اضطرابات نفسية ووجدانية تُقوّض أي وهم بالاستقرار. غرايس، التي تعاني تمزقًا داخليًا لا يُحتمَل، تظهر سيدةً عالقةً بين الرغبة والخوف، وبين الأمومة والرفض.

رامزي لا تقدّم سردًا خطيًا تقليديًا، بل تلجأ إلى تفكيك زمني يُحاكي ارتباك بطلتها، ويُعبِّر عن فقدان السيطرة على الواقع. المَشاهد لا تُروى بترتيب زمني، بل تُنظَّم بشكل يلامس اللاوعي، فتصبح الذاكرة والخيال والحاضر حقلًا واحدًا مضطربًا. في هذا السياق، تتقاطع التجربة السينمائية مع الإحساس بالكابوس المستمرّ، وكأن الزمن حلقة مغلقة لا تنفك.
كلّ شيء يسهم في بناء هذه القوقعة التي ستُزَجّ فيها غرايس. الإيقاع، الألوان، الضوضاء، الصوت… هذا كله سيتحوّل إلى صدى للتخبُّط الذي ستُحشَر فيها السيدة الجميلة والجذابة، وسيرسم طريقها إلى الجحيم، وصولًا إلى مشهد ختامي يحمل دلالات دينية. التقطت مَشاهد الفيلم بالشريط الخام (35 ملم) وأبسط الإيمان القول إنه يشارك في بناء شخصية للفيلم، وعمق جمالي يفتقده كثير من الأفلام الحالية المصوَّرة بالديجيتال.
لا يسعى الفيلم إلى تفسير مباشر، يغوص في التلميح والرمزية. العنف، سواء النفسي أو الجسدي، يحضُر بقوة. الكاميرا تُراقب بانتباه حركات غرايس وانفعالاتها وتنبش في المساحات المظلمة من ذاتها. الرعب هنا ليس خارجيًا، بل ينبع من الداخل. إنه صوت داخلي مدمِّر، وحدها غرايس تسمعه. هذا فيلم عن تصدّعات الأمومة، وعن اكتئابٍ خفيّ يتكتّم عليه المجتمع. من موضوع عولج مرارًا على الشاشة، تستمد رامزي شيئًا جديدًا مختلفًا طازجًا، يتماهى كليًا مع جنيفر لورنس.

موضوع الأمومة لا يُطرح من منظور تقليدي، بل يُساءل من جذوره. غرايس لا تبدو على صلة طبيعية بطفلها. العلاقة باهتة، بعيدة، كما لو أن هناك حاجزًا غير مرئي يمنعها من التواصل العاطفي الحقيقي. في هذا الطرح، يتجلّى وجه نادر للمعاناة الأنثوية، حيث تتحول الغريزة الأمومية إلى عبء غامض.
جنيفر لورنس تقدّم واحدًا من أكثر أدوارها تعقيدًا. أداؤها يتّسم بالتحكم العاطفي الشديد والانغماس الكامل في الشخصية. من خلال لغة الجسد ونظراتها المشحونة، تنقل كلّ ما لا يُقال. معايشتها للدور تضفي على الفيلم طاقة درامية متفجّرة، وتحافظ على توتره حتى لحظاته الأخيرة.

«مت يا حبيبي» ليس فيلمًا سهلًا أو مريحًا. هو عمل يتحدّى مشاهديه ويطرح عليهم تجربة بصرية ونفسية قاسية تتلاعب بنا على طول الخط. رامزي تؤكد مجددًا أنها من الأصوات السينمائية الأكثر جرأة في مقاربة العالم الداخلي للمرأة، بعيدًا عن أي تيار يتحكم بالصورة المرسومة عنها، وتمنحنا هنا مرآة نطلّ من خلالها على الألم والرغبة والانهيار.
الكادرات في فيلم رامزي ضيقة، خانقة، تتحول تدريجياً إلى أقفاص بصرية للشخصيات؛ فيما الغابة، وهي عادة ما تكون رمزاً للحرية أو الهروب، تتحوّل إلى كيان عدائي، ينبض بالتهديد. لا نعلم متى ستنقض الطبيعة على البطلة، لكن حضورها القمعي لا يهدأ. كل ما هو جميل عادةً، الضوء، الأشجار، الجسد، وحتى العشّ العائلي والانجاب، ينقلب إلى مصدر للقلق، كما لو أن رامزي تجرّد الأشياء من براءتها وتعيد شحنها بالرعب والاضطراب. لا فسحة للراحة، ولا مساحة للانشراح. الفيلم كله مكتوب بنبرة واحدة: ضغط متواصل. لا مهرب من هذا الجنون، لا داخل الشخصيات، ولا خارجها.

الفيلم من النوع الذي إما أن تنخرط فيه تماماً، أو تبقى منه على مسافة. وبالنظر إلى تباين ردود الأفعال، يبدو أن الصحافة الغربية ستتحفّظ عليه، لا لعيوبه الفنية ، بل لأنه لا يقدّم الجرعة المطلوبة من «الووكية» (ثقافة الـwoke)، كما فعل «المادة» لكورالي فارجا العام الماضي، حيث التجييش الإيديولوجي يتقدّم على المعالجة الفنية. هنا، لا تُقدَّم المرأة رمزاً للتمكين أو قوةً خارقة، بل ككائن هشّ، ممزَّق، مُربك، وهذا، في المزاج النقدي السائد، يُعد خروجاً عن النص المقرَّر.
لين رامزي لا تساير التيار، بل تبحر بعناد في الاتجاه المعاكس. تتماهى مع بطلتها بشكل شبه كامل، في جنونها كما في لحظاتها القليلة من العقلانية. لا تنظر إليها من علٍ أو تُخضعها لتحليل خارجي. تدخل الخندق معها، تحارب إلى جانبها، وتعيش انهيارها من الداخل.
اقرأ أيضا: «قضية 137».. سينما تحاسب ولا تشيطن!