إذا كنت تحب مشاهدة الأفلام سهلة التلقي، تلك التي تحتفظ ببنية معروفة، تستطيع معها معرفة أين يقع الحدث المحفز ومتى ستصل إلى ذروة الفيلم، وأي الأبطال خير وأيهما شرير، فإن فيلم تود هاينز الأحدث “مايو، ديسمبر” ليس لك، ولا أنصحك عزيزي القارئ بمشاهدته، فهو ربما فيلم يلعب مع مشاهده ألعاب خطيرة، ويعكس ويخرب توقعاتك عن كل شخصياته.
أما إذا كنت تود مشاهدة فيلم مختلف، حتى وإن كانت متابعته أصعب من ذلك الفيلم المعتاد المتحلي بكل صفات الفيلم التجاري الناجح سهل المشاهدة وكاسر أرقام شباك التذاكر، فإنك إن صبرت فربما تحصل على متعة مختلفة جديدة، متعة تحريك الأفكار وإثارتها في عقلك، فتبقى تفكر فيه طويلًا حتى وإن استغربت بعض مشاهده وأسلوبه السينمائي.
مايو ديسمبر، الربيع الشتاء، الشباب والعجز، هكذا تتمحور علاقة الزواج التي يحكيها هاينز في فيلمه الجديد بين جرايسي (جوليان موور) وجو، علاقة بدأت بشكل غير قانوني بين امرأة ثلاثينية وصبي في الثانية عشر من عمره! لكن الغريب هنا أن تلك العلاقة لم تنته بسجن المرأة وحملها من ذلك الصبي، بل استمرت كعلاقة زواج ناجحة امتدت بعد خروجها من السجن لمدة تزيد عن ربع قرن، إضافة إلى ذلك، فإن ذلك الثنائي المثير للجدل لم يتركا المدينة ويرحلا إلى مكان جديد بل بقيا رغم كل ما يحيط بهما من كراهية. نتعرف على تلك التفاصيل في أحدث أفلام المخرج تود هاينز من خلال إليزابيث (ناتالي بورتمان) التي تصل إلى منزل الثنائي وقت تخرج أبنائهما في الثانوية، لتقضي معهما فترة معايشة من أجل فيلم مستقل تقوم به.
يبنى هاينز أحداث فيلمه الجديد، واحد من أكثر أفلام العام المربكة سواء في موضوعه أو أسلوب إخراجه، على حادثة اشتهرت عام 1996 حول إمراة بالغة مارست الجنس مع صبي مراهق، لكن المثير هنا أن هاينز الذي بدأ مسيرته قبل ذلك الحادث بعام، يختار صنع ذلك الفيلم عام 2023، حيث الصوابية السياسية تسيطر على المشهد، ما يجعل صنع هذا الفيلم قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجه صانعها في أي وقت إن لم يستطع التعامل مع تلك السياقات وحساسياتها. لكن الفيلم يتمحور بشكل أساسي عن تلك العلاقة بين الممثلة والزوجة، وعن أسلوب المعايشة التي تعيشه تلك الممثلة وكيف تتأثر بما تعايشه، وعن اختبار الممثلة لذلك الواقع.
يُذكر الفيلم بعدة أفلام بها هذا الثنائي النسائي، من بينها “بيرسونا” لبيرجمان أو “مولهولاند درايف”، حيث إمرأة تُمثل “البيرسونا” أو الشخصية الخارجية/القناع والأخرى تمثل عمق الشخصية، لكن هنا ربما يكون الثنائي مختلف بعض الشيء، إذ أن المرأتين ربما تمثلان أنفسهن بشكل رهيب أو تتحول الممثلة بشكل ما إلى الشخصية مع مرور وقت المعايشة.
في مشهد تمنح فيه إليزابيث محاضرة عن التمثيل تُسأل عن ممارستها للجنس، فتجاوب بأنها في بعض الأوقات يكون الأمر ميكانيكيا لا وجود لروح فيه، وفي أوقات أخرى تجد نفسها تستمع بما تفعل، وتتسائل هل في ذلك الوقت يكون إدعاء الممثل أنه لا يستمتع بينما هو يستمتع حقًا؟ تلك أيضًا من نوعية الأسئلة التي يضعها هاينز في فيلمه عن العلاقة بين الإدعاء والتمثيل ولعب الأدوار بشكل ما، فلكل منا دور يلعبه أمام الجماهير، ومنا من قد يتصنع أشياء لا يحبها وآخر قد يدعي نفوره من أشياء يود فعلها.
المساحات الدرامية الرمادية هي كل شيء في فيلم هاينز، وهذا ما يجعل مشاهدته صعبة إلى حد ما، لا يعطيك إجابة شافية عن أي من الشخصيات، حتى أكثرها فجاجة جرايسي، التي مارست الجنس مع طفل، لكنه لا يفعل شيئًا غير الاقتراب من الشخصيات الثلاثة الرئيسية وتأملها دون أي حكم على أي منها، ولا ينفك عن لعب تلك اللعبة مع المشاهد.
على جانب الأسلوب فإن هاينز يضع مجازات بصرية متتالية عن اليرقة والفراشة وعملية التحول التي تحدث للدودة، ويضع تلك المشاهد كبطاقات تعريف على الطور الذي نشاهده، كما يستخدم تيمة موسيقية جادة متكررة مع لقطات تقريب (كلوز إن) سريعة بعضها مضحك، والآخر يخلق نوعًا من التوتر واليقظة لدى المشاهد. لكن العنصر الأقوى في الفيلم يتمثل في الأداءات المذهلة لجوليان موور وناتالي بورتمان، وخاصة الأخيرة إذ تقوم بعمليتي تمثيل، إحداهن بالفعل في الفيلم الذي نشاهده وأخرى لذلك الفيلم الذي تصنعه، وتكسر الحائط الرابع في أحد المشاهد بمشهد تربكك انفعالاتها المتناقضة على الشاشة، تلك الانفعالات التي تشرح كل شيء عن الشخصية التي تلعبها وربما عن نفسها، هي ربما خليط من كل النقائض، تضع بورتمان ذلك على الشاشة بتقلبات صغيرة تؤديها بوجهها فتتأرجح في تفسير التعبير فأحيانا تبدو كإمراة مغوية وأحيانا أخرى كطفلة ضعيفة، وهو ما تقتبسه من جوليان موور التي تصنع ذلك على مدار الفيلم.
مشاهدة فيلم كهذا ليست سهلة، لكن إن تركت نفسك لتلك اللعبة التي يلعبها هاينز معك ستكتشف أنك أمام فيلم مختلف، ربما يبدو كتلك القطعة الموسيقية التي تُلعب باستمرار في الفيلم، موتيفة متكررة، أجزاء مفتتتة تبني موزاييك عن كل تلك الشخصيات التي تشاهدها، ولا تعلم أيها يقول الحقيقة وأيهما يكذب، أليس كذلك أكثر إثارة وتشويقًا من فيلم يعطيك كل الإجابات بسهولة ويقدمها إليك؟ إذا كنت تتفق معي في ذلك فإن فيلم “مايو، ديسمبر” هو فيلم عن شخصيات مُحيرة في الحكم عليها، لكنه بالتأكيد فيلم يحرك الأفكار في عقلك، ويبقيك تفكر به بعد نهايته، وهذا هو لب متعته.
اقرأ ايضا: “الأيام المثالية” ….. الروتين كطقوس عبادية