فاصلة

مقالات

مايكل مان شرّع باب الأسرار إلى عالمه في جدة

Reading Time: 5 minutes

حلّ مايكل مان ضيفًا على الدورة الأخيرة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي» (5 – 14 الجاري). لا بد للمرء الذي يتابع عمل المايسترو الأميركي، منذ تسعينات القرن الماضي، أن يشعر بشيء من الرهبة والدهشة وهو على بُعد خطوات من ابن الحادية  والثمانين، المتوسط القامة ذي الشعر الأبيض. فطيلة سنوات عملي صحافيًا وناقدًا سينمائيًا، لم يُتح لي المجال لمقابلة مان ومحاورته، فهو مقلّ كلامًا وإطلالات، خصوصًا أن أفلامه لا تُعرض كثيرًا في مهرجانات سينمائية. شاهدته من بعيد في مهرجان البندقية يوم ترأس لجنة تحكيم المسابقة قبل 12 عامًا، ثم مرةً أخرى في مهرجان لوميير (ليون) حينما مر به مرورًا سريعًا. 

لا يحتاج مايكل مان إلى تعريف، لكن بعض التذكير لا يضر بأحد: ذاع صيت هذا السينمائي مع فيلمه «هيت»، في العام 1995، بطولة آل باتشينو وروبرت دنيرو، موفّرًا لهما أجمل مواجهة سينمائية في تاريخهما. لكن لا يمكن حصر منجزه الفني في هذا العمل وحسب، إذ لديه في رصيده ما يوازيه أهميةً، سواءً قبله أو وبعده، من مثل «آخر رجال الموهيكان» (مع دانيال داي لويس) و«علي» (مع ويل سميث) و«كولاتيرال» (مع توم كروز) و«شرطة ميامي» (مع جايمي فوكس) و«عدو الشعب» (مع جوني ديب) ومؤخراً «فيراري» (مع آدم درايفر)، وغيرها من الأفلام التي نصبته سيدًا في مجال الفيلم البوليسي ذي الأجواء المقلقة والمناخ الضاغط.

 ورغم أنه كان بدأ العمل في السينما منذ نهاية الستينات، لم يكرَّس إلا في مطلع التسعينات بعدما كان أصبح في الخمسين من عمره. كلّ هذه الأفلام ساهمت في صناعة مجده ووضعه على رأس سينما تمزج بين أنواع فيلمية عدة، الثريللر والحركة والغموض والتشويق، سينما يملك سرها ويعرف كيف يتلاعب بثوابتها، على غرار المعلّمين الآخرين براين دبالما ومارتن سكورسيزي.

مايكل مان
Heat (1995)

لكن، كم كانت المفاجأة كبيرة عندما وصل إلى جدة بعد طول انتظار، ولم يعطنا ما كنّا نطمح إليه. كان المهرجان قد أعلن عن «حديث مع مايكل مان»، لكن عند وصولنا إلى مكان الحدث، طُلب منا إغلاق الهواتف المحمولة بغية تغليفه على نحو لا يسمح لنا بالتقاط أي صورة خلال الجلسة. أما الطامة الكبرى فتجسّدت في تركيزه على آخر أفلامه «فيراري». في الحقيقة، جاء مان ليروّج عن موقع إلكتروني يوثّق مراحل إنجاز «فيراري»، مع الإشارة إلى أنه لم يكن معروضًا في المهرجان، لا بل عُرض بدلاً منه «هيت». 

طوال نحو نصف ساعة أعطى مان ما يشبه المحاضرة حول محتوى الموقع، شارحًا بالطول والعرض ما يتضمّنه، وذلك من خلال عرض متقطّع على الشاشة، قبل أن يجلس مع محاوره ليكون الحديث مجدداً عن… «فيراري»! صحيح شرّع باب الأسرار إلى عالمه الذي يمكن الدخول إليه مقابل 65 دولاراً لمشاهدة 200 فيديو وتصفّح نحو 3400 وثيقة، لكن كان المطلوب أن يتحقّق ذلك من خلال مجمل أفلامه، لا من خلال فيلم واحد.  

مايكل مان
Ferrari (2023)

اعترف مان أن تصوير فيلم هو أكثر عمل مشوِّق يمكن لإنسان أن يقوم به، معلّقًا: «عشتُ في هذا العالم المدهش طوال سنة ونصف السنة وأنا أصوّر «فيراري». فأردنا ان نتشاركه مع الآخرين، لذا أنشأنا هذا الموقع. وخطرت لي الفكرة عندما قالت لي ابنتي بأنه عليّ الاحتفاظ بكلّ الوثائق والمستندات».

رغم أن كلّ الذين أعرفهم، خاب ظنّهم من هذا اللقاء، كتب أحد المواقع الغربية أن الجمهور غادر «الماستركلاس» بتقدير أعمق لعبقرية مان: «قدرته على المزج بين السرد الملحمي واللحظات الشخصية العميقة تظل لا مثيل لها. من خلال أفلامه، والآن من خلال مشروع أرشيفه، يواصل مان تقديم نافذة نادرة على عالم صناعة الأفلام، عالم تسوده التفاصيل والشغف والأصالة».

مايكل مان
مايكل مان

«فيراري»، أحدث أفلام مايكل مان ويحمل الرقم الثاني عشر في سجلّه، أعاده إلى الشاشة بعد ثماني سنوات على تقديم آخر أفلامه «بلاك هات» الذي كان فشلًا ذريعًا في شبّاك التذاكر. لم يحقّق «فيراري» اجماعًا، أقنع البعض وترك البعض الآخر في حالة من الظمأ الفنّي. عند عرضه العام الماضي في مسابقة البندقية، اعتبرته مشروعًا ينم عن حاجة شخصية أكثر منها مهنية، الشيء الذي تأكّد لي أكثر خلال حديثه عنه في جدة. 

تحملنا الأحداث إلى عام 1957، ويروي فترة عصيبة ومليئة بالتحديات في حياة إنزو فيراري (درايفر)، مبتكر السيارات الشهير، وزوجته لاورا (بينيلوبي كروز). يضيء الفيلم على الأزمات المتداخلة التي واجهها الزوجان، سواء في مجال السباقات أو إدارة مصنع فيراري، أو حتى في علاقتهما الشخصية.

 الفيلم، الذي يتميز بتفاصيله التاريخية الدقيقة، يبتعد عن قصّة النجاح الاعتيادية لإنزو فيراري. بدلًا من ذلك، يركّز على تدهوره البطيء وسط صراعات عائلية ومهنية وأخلاقية تكشف عن هشاشته الداخلية. الأجواء العامة للعمل غارقة في السوداوية، حيث يرافق شبح الموت الشخصيات مشهدًا بعد مشهد، سواء داخل المنزل أو على مضمار السباق، أو حتى في أعماق نفوسهم.

Ferrari (2023)
Ferrari (2023)

روى مان أنه استلهم فكرة «فيراري» من اهتمامه العميق بشخصية إنزو فيراري وتعقيداتها. أجرى الكثير من البحوث، وذلك بتعاون وثيق مع الممثّلين. أحد المواقف التي شاركها يتعلّق بحوار دار بينه وبين بينيلوبي كروز، حيث توصلا كلّ على حدة إلى الفكرة نفسها حول تصميم حذاء الشخصية. لحظة مثل هذه، تعكس الانسجام الكبير بين مان وفريق العمل، بحيث أن الحدس يلتقي بالخلق الفني.

 لم تتوقّف عناية مان بالتفاصيل عند الشخصيات فحسب، بل امتدت إلى البيئة المحيطة. فأثناء التصوير، أخبرنا أنه عاش في مودينا ليتعمّق في عالم فيراري، واعتاد زيارة صالون الحلاقة الذي كان فيراري يرتاده يوميًا، والذي يديره حاليًا ابن الحلاق القديم. هذه التجربة، وفقًا لمان، ساعدت في إضفاء واقعية تنساب بشكل غير مباشر في كلّ مشهد. انعكست هذه الدقّة أيضاً في الأسلوب البصري. فضّل مان المؤثرات العملية على الاعتماد المفرط على مثيلاتها الحاسوبية، بهدف الحفاظ على واقعية المشاهد، مؤثرًا التركيز على الجوهر العاطفي للحظة.

كشف مان أن تأليف الجزء الثاني من فيلمه الأشهر «هيت»، يشهد حاليًا مراحله الأخيرة، وسينهيه على الطائرة في طريق عودته إلى لوس أنجليس. لكن لم يدخل في أي تفاصيل تتعلّق به. كلّ ما نعرفه حتى الآن هو أنه سيستند إلى رواية وضعها مع الكاتبة ميغ غاردينر يعود فيها إلى جذور الشخصيات وفي الحين نفسه يتابع القصّة من حيث وصلت إليها في الجزء الأول، وهذا يعني أن أحداث «هيت 2» تنطلق في أواخر الثمانينات وتمتد حتى مطلع القرن الحالي.

لن يكون الفيلم من بطولة روبرت دنيرو وآل باتشينو، لكن سيُعوَّض عنهما بلقطات مشغولة بالكومبيوتر. آدم درايفر الذي لعب دور فيراري قد يؤدي دورًا في الفيلم، ذلك أن تجربتهما المشتركة كانت على درجة عالية من الانسجام والوفاق، كما صرّح المخرج الكبير. كما أنه يتردد في الوسط السينمائي بأن «البحر الأحمر» سيكون من الممولين. 

آدم درايفر «Ferrari (2023)»
آدم درايفر «Ferrari (2023)»

يقول مان عن رواية «هيت 2» التي صدرت في العام 2022، خلال تصوير «فيراري»: «تم تصنيفه على الفور في المرتبة الأولى في قائمة «نيويورك تايمز»، وهذا أمر لم أكن لأتوقّعه. لا أعرف كيف أكتب رواية، لكنني أعرف كيف أكتب سيناريوهات. لقد تناولتُ هذه القصّة كما لو كانت سيناريو مكونًا من أربعة فصول، باستثناء أنه بدلًا من أن يحتوي كلّ فصل على ستة أو سبعة مشاهد، يحتوي على نحو 130 مشهدًا». 

أخيرًا، أعرب مان عن رغبته في تحقيق مشروعه حول مذبحة هوي التي وقعت خلال حرب فيتنام. هذا مشروع يحلم فيه منذ زمن بعيد، وقد استخدم بعضًا من أبحاثه حول هذه المعركة لتشكيل الخلفية الدرامية لشخصية الملازم فنسنت هانّا، التي جسّدها آل باتشينو في «هيت». 

اقرأ أيضا: ثلاثون عاماً على «حرارة» مايكل مان

شارك هذا المنشور

أضف تعليق