يمتلئ تاريخ السينما بحالات عديدة قام خلالها ممثلون بالاتجاه إلى الإخراج، محاولات أسفرت عن نتائج شديدة التفاوت بين نجاح مشهود وتعثر حزين. غير أن السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه في كل مرة نشاهد فيها فيلمًا من إخراج ممثل شهير هو الدافع الفني وراء تلك الخطوة.
لا نتحدث هنا عن التفسير الإنساني المنطقي، فبعد درجة من النجاح يشعر الممثل -لا سيما إن كان مثقفًا وصاحب أفكار- أن لديه ما يريد التعبير عنه بنفسه بدلًا من الاكتفاء بأن يكون أداةً في عمل مخرج آخر. إنما نقصد الأسباب الفنية والسردية التي تحرك التجربة: هل الأمر يقتصر على أن الممثل كوّن خبرة تقنية تجعله قادرًا على شغل مقعد المخرج بلا مشاكل؟ أم إن لديه فعلًا أسلوبًا خاصًا يحتاج الانتقال إلى المقعد كي يُظهره على الشاشة؟
في هذا السؤال تكمن قيمة فيلم “مايسترو“، ثاني أعمال النجم برادلي كوبر كمخرج، والذي يقطع من خلاله خطوة ضخمة من كونه ممثلًا أتقن أدوات الإخراج إلى تعميده مخرجًا حقيقيًا لديه اختيارات أسلوبية مثيرة للانتباه والتحليل. فيلم كوبر الأول “مولد نجمة A Star is Born” أثبت الجدارة التقنية، وها هو يعود ليرسخ مكانته كصانع أفلام معاصر يستحق اهتمام أسماء بحجم مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبيرج اللذين شاركاه إنتاج الفيلم.
في هذا المقال، سنتعرض لثلاثة اختيارات رئيسية شكلت أسلوب كوبر السردي في “مايسترو”، فجعلته واحدًا من أفضل أعمال 2023، وفتحت له باب موسم الجوائز الذي نتوقع أن يحظى خلاله بتقدير يعوّض منصة “نتفليكس” بعض الشيء عما فقدته أفلامها خلال الأعوام الأخيرة من سمعة.
الاختيار الأول: احذر من الماستر سينز
يبدأ الفيلم بمقدمة نشاهد فيها بطل الحكاية الملحن وقائد الأوركسترا الشهير ليونارد بيرنستاين عجوزًا يتحدث عن زوجته الراحلة (يجسده برادلي كوبر بنفسه مستخدمًا أنفًا صناعيًا تسببت أنباء وجوده في لغط إعلامي وحساسية من جمهور الصوابية قبل أن ينساه الجميع بعد لحظات تمكن فيها الفيلم من جذب انتباههم!). ننتقل بعد المقدمة مباشرة للحظة الأهم في مسيرة بيرنستاين الشاب، عندما أتته فرصة غير متوقعة وهو في عمر الخامسة والعشرين أن يقود أوركسترا نيويورك الفيلهارموني عندما تعرض المايسترو لوعكة صحية مفاجئة.
المقدمة صوّرت بالألوان، والماضي بالأبيض والأسود المناسب للعصر. يتلقى بيرنستاين الخبر فيصيح في سعادة، يخبر حبيبه النائم ويرتدي روبه المنزلي ويركض لنكتشف إنه يعيش في غرفة ضمن مبنى المسرح، يصل إلى شرفة المسرح فينظر منها بفخر وتبتعد الكاميرا لتوضح التباين بين صغر جسده وحجم القاعة الهائل، وتتصاعد في الخلفية دقات طبول وموسيقى حماسية.
عند هذه اللحظة يمكن بسهولة توقع المشهد التالي: أن نرى الشاب عديم الخبرة يُبهر الجميع بقيادة مثالية للأوركسترا تضعه على طريق الشهرة والمجد مبكرًا، وهو ما حدث بالفعل في الواقع. لكن برادلي كوبر المخرج يتخذ قرارًا بعدم الوقوع في فخ إغراء المشهد المتوقع وغواية تلميع نفسه كممثل، ليفاجئنا الفيلم بانتقال يتجاوز الحفل بأكمله، ويقفز منه للنتيجة الأهم: ليني بيرنستاين وقد صار بالفعل موسيقيًا مرموقًا تفتح له الحياة ذراعيها.
يشير القول الشائع أن محدودي الموهبة مهووسون دائمًا بالملحمة، وحكاية بيرنستاين ملحمية بحق، كانت تحتاج مخرجًا ضعيفًا ليملأها بمشاهد العزف ولحظات التصاعد الدرامي، لكن برادلي كوبر تعامل مع المهمة بمنتهى الحذر، وبنضج يكشف عن وعي بموضوعه، فيؤجل “الماستر سينز” أو المشاهد الرئيسية إلى وقتها المناسب، حتى أننا عندما نشاهد ليني أخيرًا يقود الأوركسترا في الربع الأخير من الفيلم نكون قد وصلنا لنقطة نفهم فيها قيمة أداءه، ونضعه داخل مكانه الصحيح في سياق حياته المعقدة والمليئة بالتفاصيل.
الاختيار الثاني: احترم تعقد نفوس البشر
الموضوع الرئيسي لفيلم “مايسترو” ليس المسيرة الفنية لليونارد بيرنستاين، وإنما علاقته المعقدة بزوجته الممثلة الأمريكية التشيلية فيليشيا مونتيليجري، والتي تجسدها كاري موليجان بأداء مدهش ربما يكون الأداء النسائي الأفضل في كل أفلام الشهور الأخيرة من العام الحالي.
ومثلما تمتلئ مسيرة بيرنستاين بالمشاهد الملائمة لعمل ملحمي، فإن علاقته بزوجته تحفل بكل أسباب الميلودراما، فهو ذو ميول جنسية مزدوجة منذ الأزل، كان بصحبة حبيب عندما واتته فرصة قيادة الأوركسترا لأول مرة، لكنه يقع في حب فيليشيا بالفعل ويفعل كل شيء كي تكون معه. كلاهما يهودي أثرت ديانته على مسيرته أو شكّلت على الأقل عقدة ما في شخصيته، ويكفي إن تعارفهما بدأ بنصيحة من موسيقار يهودي آخر لليني أن يغير اسمه الأخير من بيرنستاين إلى بيرنز لأنه من المستحيل أن يُسمح لرجل يحمل اسمًا يدل على جذوره كهذا أن ينال فرصًا كبيرة.
ليني رجل أسرة ناجح، يحبه أبناءه الثلاثة ويتعاملون معه بكل ود وتقدير، لكنه أيضًا فنان جامح يقتنص لحظات اللذة الجسدية والعاطفية عندما يجدها دون أن يضع في اعتباره كل حسابات الأسرة والمجتمع. فيليشيا هي الأخرى بالتأكيد تحب ليني وتتفهمه، لكن تفهمها يتصارع طيلة الوقت مع قدرتها على تحمل جموحه وشططه وخروجه على المألوف، وهو في المقابل يعلم كونه في أمس الحاجة إليها، ليس فقط لأنها آخر من يحافظ على صورته الإعلامية المنضبطة كزوج ورب أسرة ناجح، ولكن لأنه يعترف بأنها مصدر الاتزان الذي يحميه من شخصيته التي تعاني كأغلب الموهوبين من حس تدمير ذاتي واضح.
أفضل ما في النص الذي كتبه برادلي كوبر بصحبة جوش سينجر هو تفهمه لقدر التعقد الذي يميز كل تفصيلة في تلك العلاقة، بل وكل العلاقات الإنسانية بشكل ما، فلا ينجرف أبدًا إلى الميلودراما رغم امتلاكه كل أسبابها، بل يبقى دائمًا على مسافة ملائمة، تتأمل الحدث وتقترب من شخوصه، دون أن تصدر عليهم أحكامًا أو تحاول التظاهر بامتلاك تفسيرات قاطعة لقراراتهم في الحياة. ولعل مشهد المواجهة المؤجلة بين الزوجين، والذي يصوّره كوبر في لقطة واحدة ثابتة مدتها أربعة دقائق، ويوظف فيه الحوار مع تفاصيل مسيرة احتفالية تدور في الخلفية خارج المنزل، هو تعبير سينمائي بليغ عن قيمة الاختيارين الأول والثاني، وعن قدرة مخرج أن ينقل أعقد المشاعر والأفكار بأدوات بسيطة وبليغة.
الاختيار الثالث: ابحث عن صوت الحقيقة
ثالث الاختيارات المدهشة في “مايسترو” هو قرار كوبر ألا يضع أي موسيقى جديدة للفيلم، وأن يكتفي بالإبحار بعمق داخل موسيقى ليونارد بيرنستاين بحثًا عن القطع الملائمة للتعبير عما يريده في كل مشهد من العمل.
لدينا هنا شريط صوتي مدهش، لا يكتفي برادلي كوبر فيه باستخدام بيرنستاين المعروفة، بل يُبحر داخل الأعمال الأقل شهرة للرجل الذي يمتلك مسيرة غريبة في تجلياتها المتباينة، فقد ألف موسيقى كلاسيكية ومسرحيات غنائية لمسارح برودواي وأعمال خفيفة، بخلاف موسيقى أصلية لفيلم وحيد هو رائعة إيليا كازان “على الواجهة البحرية On the Waterfront”. وهي معلومة تختلط في أذهان الكثيرين بسبب الأفلام العديدة التي استخدمت موسيقى مسرحيات برنستاين الغنائية، بينما كلها أعمال لم تؤلف من أجل السينما بالأساس.
يُقدم كوبر سردًا موازيًا عبر الموسيقى، يخبرنا من خلاله أن إنجاز بطله الفني كان تجسيدًا لما يموج داخله من تناقضات، وكأن بيرنستاين يساهم بموسيقاه بعد عقود من رحيله في كتابة فيلم عن حياته، فإذا كان السيناريو من كتابة كوبر وسينجر، فالفيلم من كتابة ليني معهما. وهو مجددًا اختيار إخراجي يستحق التحية.
يمتلك “مايسترو” المزيد مما يمكن الحديث عنه، من ثراء الصورة وتعدد أشكالها، فالمخرج يوظف الألوان والأبيض والأسود، الشاشة العريضة والمربعة، اللقطات الطويلة الثابتة والمتحركة الصاخبة، إلى الأداء التمثيلي الكبير من برادلي كوبر وكاري موليجان، إلى القدرة على إعادة خلق أكثر من زمن عبر الاختيارات البصرية والموسيقية، وغيرها من العناصر التي يحفل بها الفيلم.
لكن تبقى الاختيارات الثلاثة التي تعرضنا لها في المقال الأقدر في التعبير عما أثبته صانع الفيلم من موهبة سردية كبيرة، وصوت سينمائي خاص يوّظف إمكانيات الوسيط بصورة خلّاقة لا تكتفي بكون صانعها ممثلًا تعلم تقنيات الإخراج. وإذا كان “مولد نجمة” قد قدم لنا برادلي كوبر المخرج الناجح، فإن “مايسترو” قد جاء لنا بالمخرج الموهوب.
اقرأ أيضا: “ناقة”.. ثمن المخاطرة السينمائية