فاصلة

مقالات

ماذا بقي من «مدونات» بريسون بعد حوالي نصف قرن؟

Reading Time: 3 minutes

«مدونات حول السينماتوغراف»، كتاب روبير بريسون المرجعي (1975)، يبتلعنا ابتلاعًا كاملًا، سواء أمعنّا فيه النظر أو رُحنا نتجول داخل دهاليز البلاغة البريسونية. أصبح لهذا الكتاب هيبة ومكانة، مذ نشره. كُثر نسوه. المنتج السعودي صالح فوزان يذكّرنا به بين وقت وآخر عبر صفحته «الفيسبوكية». نتصفّحه كمؤمن يدخل دار العبادة. الدهشة خلف كلّ بابّ وكلّ فكرة وكلّ صورة ذهنية وكلّ رمز. أفكار كفيلة بجعلك تعيد النظر في كلّ شيء سبق أن تعلّمته عن فنّ الشاشة. هذا ما نشعر به لدى مطالعة الكتاب – المُدهش حينًا والمزعج أحيانًا – في ضوء الحاضر، فنكتشف أن الانبهار إزاءه لا يزال قائمًا رغم مرور الزمن. 

«مدونات حول السينماتوغراف»، كتاب خواطر، شذرات، بيان تأسيسي. المعلّم الفرنسي الذي كان يفضلّ كلمة «سينماتوغراف» على «السينما»، يتوجّه بنصائحه إلى من يريد التعمّق في السينما تعمقاً فلسفياً وفق منظور بريسوني صرف. هذه النصائح اجتهادات ملغومة بشاعرية جائعة ومحبطة، تكونت نتيجة تأملات شخصية محورها السيناريو والإخراج وإدارة الممثّل. صاحب نظرية «السينما تولد من المواجهة والضد» و«نقّح الواقع بالواقع»، يرسم رؤيته بجملٍ مقتضبة تحضر أحياناً من دون فعل. هذه أسطر أشبه بألغاز، أفكار معلّقة، تفسير معدوم، لكن هذا كله يجعلك تعبر في حالات تحملك إلى فهم آخر للسينما. 

نصف قرن مر منذ صدور الكتاب، لكن مدونات بريسون لم تشِخ. لنقُل أنه بات يُنظر إليها بمنظور آخر؛ ثوري وتحريضي في آن واحد. أفكار كثيرة ينطوي عليها لا تزال صالحة، رغم أن القراءة من منظور الحاضر، تضعنا أمام حقيقة أن عددًا لا بأس به من الهموم والهواجس التي كانت تشغل السينمائي الكبير في زمن سابق، حسمه الزمن. يبقى أن أهمية هذه الهواجس تكمن في كونها شكّلت مصدر إلهام ووحي لعدد من السينمائيين حول العالم وفي مقدّمهم عباس كيارستمي. 

 غلاف «مدونات حول السينماتوغراف»
غلاف «مدونات حول السينماتوغراف»

يُمكن النظر إلى الكتاب باعتباره نصائح، لكنه في الواقع أكثر من ذلك. كلّ ما يفعله بريسون هو أنه يفكّر بصوتٍ عال وبنفَس صدامي. نظرياته انطباعية تترجّح بين التنظير والتطبيق، أطلقها في معظم الأحيان خلال عملية التصوير، إذ كان يسجّلها كيوميات، قبل أن يحوّلها في ما بعد إلى كتاب.

يغطّي القسم الأول من الكتاب، الأعوام ما بين 1950 و1958، فيما يدور القسم الثاني منه حول تأملات تمتد من 1960 إلى 1974، وهذا إن دل على شيء فعلى أن الجزء الأول هو الأكثر براءةً، فيما الثاني يجسّد النضج. عدم التجانس صفة أخرى من صفات الكتاب، كونه يتناول أحجية في بعض فصوله، تجعلنا نتساءل ما إذا كان بريسون نفسه قادرًا على فهمها. ففي إحدى الصفحات مثلًا، يكتب: «في الطقس الكنسي للروم ــ الكاثوليك، يُقال: تنبّهوا!». 

في المقابل، نجد على صفحات أخرى نقيض هذا الغموض، بل بساطة محيرة. فأفضلية المرور لدى بريسون هي للإنسان لا للفنّان، مما يجعل كتابته رقيقة. هذه المدونات تجعله تنويرياً إذ يتخلّى عن تاج المثقّف المتسلط. والدليل قوله: «لن تعرف إلا بعد مرور الزمن ما إذا كان فيلمك يستحقّ ما تكبّدته من جهود». أما أحكام من مثل «بمرور الزمن تَبَرجَز المسرح، والسينما دليلٌ على ذلك»، فنقطة خلافية. هي جملة بسيطة، لكن يمكن البناء عليها جدالًا ومهاترات.

بعض المدونات تقول بصراحة أن الكاتب هو بريسون، صاحب أفلام مثل «موشيت» و«بيكبوكيت»، ومنها عندما يكتب أنه يجب عدم استخدام أي موسيقى في السينما، لأن الموسيقى في نظره عنصر معدّل للصورة، وكلّ شيء يعدّل يفسد، ولأن الموسيقى «تأخذ كلّ المكان في العمل». 

 فيلم Mouchette (1967)
فيلم Mouchette (1967)

حتى النقّاد لا يوفّرهم من سهامه. يتحامل عليهم على نحو يجعله يلدغ حيث الجراح. يكتب: «كم من ناقد لم يتوصّل إلى رسم حدود فاصلة بين السينما والسينماتوغراف. وإذ يفتح العين، بين حين وآخر، على حضور الممثّلين وأدائهم غير الملائم، سرعان ما يغمضها. فهو مضطر ان يحبّ، بالجملة، كلّ ما يُعرض على الشاشات». 

من الصعب أن نصرف النظر عن أن بريسون عندما نشر المدونات كان في الثامنة والستين، وأنجز معظم ما أنجزه من أفلام. ليس هناك أفضل ممّا كتبه في هذه الجملة ليرد الاعتبار إلى مسار يعتبره كثر نموذجياً: «احفر احساسك. انظر إلى ما في داخله. فلا تحلله بالكلمات. ترجمه إلى صور متآخية، إلى أصوات مترادفة. وبقدر ما يكون الإحساس نقيّاً، يترسّخ أسلوبك (…). ليكن فيلمك شبيهاً بالذي تراه عندما تغمض عينيك». كلمات قليلة، لكن يمكن التأمل فيها طويلاً.

عند صدوره، تم الاحتفاء بالكتاب، لا سيما في الأوساط السينمائية. استعار منه جان لوك غودار جملاً ونشرها في أحد أفلامه. عند بريسون، لا قراءة ممكنة للسينما بمعزل عن الفنون التي استلهمت منها، قبل أن تثور عليها لاحقاً. مدوناته مانيفستو للسينما ولكلّ ما يرسم حدوداً بينها وبين الرسم والأدب والمسرح، وخصوصاً المسرح الذي هو الأكثر التصاقاً بالسينما. يشاركنا بريسون ما يمكن ان يساعدنا في فهم أعمق للسينما والمنجز الفني، وذلك بتعابير قد تكون شاعرية مثل «أي فيلم يجب أن يُبنى على البياض والصمت والسكون»، لكنها تحض على التفكير، خصوصاً إذا كان المخرج يعتبر نفسه صلة وصل بين عناصر الفيلم. باختصار، هكذا يرى بريسون السينما، ضارباً بسيزان المثل: «سيزان يصوّر بالعين نفسها وبالروح نفسها طبق الفواكه، وابنه وجبل سانت فيكتوار». 

اقرأ أيضا: أليخاندرو خودوروفسكي: الفنّ والشفاء مرتبطان جوهرياً

شارك هذا المنشور