فاصلة

مراجعات

«ماء العين».. واقعية تونسية بنكهة سحرية

Reading Time: 4 minutes

أن ينافس فيلمك الروائي الطويل الأول ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي، فهذا إنجاز في حد ذاته، لكن التمثيل المشرف ليس الدافع الرئيسي وراء صنع فيلم “ماء العين” للمخرجة التونسية مريم جعبر بكل تأكيد، فهذا فيلم صنع من أجل تكثيف الحياة في شريط سينمائي سيعيش طويلاً. 

في حكاية مريم جعبر نتعرف على أسرة تونسية صغيرة تعيش في الريف وتعمل في رعي الأغنام، تمرالأم عائشة ( صالحة نصراوي) بلحظة فقد كبرى بعد أن يرحل اثنين من أبناءها للانضمام لداعش، لكنها رغم ذلك تنتظر عودتهم، على الجانب الآخر فالأب إبراهيم (محمد قريع) غاضب عليهما ويراهما كقتلة ومغتصبين، الأخ الأصغر آدم يلهو كالصغار ولا يزال يحب أخويه رغم كل شئ. 

ماء العين

كيف تصبح حكاية بهذا الشكل عن الأسرة وليست عن الحرب؟، كيف يختفي الكلام عن العام من دين وسياسة ليحضر الحديث عن الخاص بين الإخوة والآباء والأبناء؟ والأهم سينمائياً كيف يمكن أن تصنع حكاية تبدو بهذه القتامة في إطار من الواقعية السحرية ؟

واقعية تونسية 

بدأ مصطلح “سينما الواقعية” من خلال تيار الواقعية الإيطالية عقب الحرب العالمية الثانية، هجر “فيتوريو دي سيكا” ورفاقه استديوهات إيطاليا المهدمة بعد الحرب وقرروا التصوير في مواقع حقيقية مع بشر حقيقيين وبالاستعانة بممثلين هواة أو حتى بوجوه تقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، كان دافع تيار الواقعية هو الوصول للإنسان البسيط من حيث يعيش. 

هنا تصنع “مريم جعبر” في فيلمها الروائي الطويل الأول والذي يمثل امتداد لحكاية فيلمها القصير الأخير “إخوان” نسختها من “الواقعية التونسية” حيث مواقع تصوير حقيقية في ريف شمال تونس الساحلي، ممثلين نصفهم دون أي سابق خبرة تمثيلية، الإخوة الثلاثة الذين قاموا بأدوار البطولة “مالك وريان وشاكر” في أدوار  “مهدي” و”أمين” و “أدم” على الترتيب رأتهم المخرج صدفة في ريف تونس وهم يرعون الغنم بالفعل، يضاف لهم ممثلان خبيران وإن لم يحظوا بأدوار شهيرة على المستوى العربي قبل تعاونهما مع “جعبر” ونقصد هنا “صالحة نصراوي” في دور الأم/ عائشة و”محمد قريع” في دور الأب/إبراهيم ونجم شاب صاعد هو أدم ليسا في دور بلال. 

وجوه حقيقية ومواقع تصوير حقيقية وموضوع من قلب واقع المجتمع التونسي الذي انضم من شبابه الكثيرون لتنظيم داعش. هذه سينما واقعية تحاول الوصول لأهل تونس بلغتهم ومن داخل ديارهم، لكن هذا الفيلم لا يتخذ الطريق السهل في سينما الواقعية، فهو يحاول أكثر أن يخاطب المشاعر لا الأفكار، المحسوس واللاوعي أكثر بكثير من ما ندركه ونعيه. وهنا يحضر السحر. 

Who do I belong to

ما وراء الطبيعة 

في الثقافة العربية إيمان عميق بالماورائيات، تحيك “مريم جعبر” حكايتها باستخدام ذلك، فبطلة حكايتنا “عائشة” ترى رؤية عقب الأخرى في منامها عن رحيل أبناءها ثم عودة أحدهم، ترى حصانا أسود، ثم ترى حصان أبيض، يبشرها أحد الأحلام بالعودة وينبهها حلم آخر من شر سيحدث. 

تتجاوز الحكاية استخدام الماورائيات إلى عالم الواقعية السحرية، فحكياتنا التي تدور في عالم واقعي بالكلية يتسرب له عناصر سحرية تصبح مقبولة داخل الحكاية، توفر تفسير لما يحدث وتعطي للضحية فرصة أخرى. 

Who do I belong to

ريم 

زوجة “مهدي” االعائدة معه من سوريا، بعينيها التي لا ترمش ونظراتها الحادة ومشيتها البطيئة ونقابها التي لا يظهر منه سوى عينين بالإضافة لصمتها الدائم يصبحان لغز الحكاية الأكبر، لا تنكشف بعض التفاصيل حتى الدقائق الأخيرة من الفيلم، والذي ربما تحاول خلالها “مريم جعبر” بث لحظات قليلة من ثأر النسوية من بلطجية “داعش”. 

لكن ما يبقى من “ريم” التي تقوم بدورها “ديا ليان” من أثر هو أثقل كثيرا من ما تكشف عنها في الفصل الأخير من الحكاية، تظل تطاردك بنظراتها الحادة الساكنة، وتظل تؤثر في أحلامك وأفكارك كلما يمر الفيلم بخاطرك، كم “ريم” في عالمنا العربي، كم “ريم” في العالم أجمع!

كيف تتحول فتاة صغيرة وجميلة وشجاعة لما وصلت إليه “ريم”، وكيف يتحول أخ عطوف وصديق صاحب حس فكاهي لما وصل إليه “مهدي. 

يصبح تفسير الماورائيات في الفيلم هاجس كلما فكرت فيها، وتختلف التأويلات تبعا لخلفيتك الدينية والثقافية، مثلا هل هي صدفة أن أسماء أفراد العائلة كلها ذات دلالة دينية؟ 

Who do I belong to

مزيج الطقوس والألوان 

تخبرنا “مريم جعبر” في أحد الحوارات التي أعقبت الفيلم أن الرؤي والأحلام صاحبتها شخصيا أثناء صناعة الفيلم، وهو ما تم ترجمته هنا لتجربة حسية أكثر من كونها فيلم ذات مغزى سياسي واضح، تجربة حسية تعتمد بالأساس على السرد البصري، كادرات يمكن تأويلها بطرق مختلفة، أم تحتضن إبنها وسط مروج خضراء، وفي لحظة أخرى تحمل الأحطاب على ظهرها في تكوين بديع لنساء القرية، وفي أحد أجمل تتابعات الفيلم تتبع في أحد رؤياها ابنها الغائب وسط تلال يكسوها اللون القرمزي. 

هذا الحالة تنقل فيلم “ماء العين” لحالة سينمائية فريدة من نوعها، حالة تذكرنا في بعض خصالها بسينمائيين عظام في منطقتنا، تكوينات تذكرنا بيوسف شاهين، كادرات بعيدة (wide shots) تذكرنا بناصر خمير.

 لكن الحالة مكتملة تظل ملك “مريم جعبر” بشكل حصري، بنكهة خاصة بها، حلوة ومرة، حالة تنقل لك مشاعر الحكاية، تترك لك فراغات لتملأها بنفسك، بمشاعرك وتأويلاتك، فيستمر الفيلم معك في التطور في كل ليلة تتذكره فيها، لتترك “مريم” فينا بفيلمها الروائي الأول أثراً لا نبالغ إن قلنا أنه لن يزول. 

ماء العين

اقرأ أيضا: 10 ترشيحات للمشاهدة في مهرجان برلين 2024

شارك هذا المنشور