فاصلة

مراجعات

«ماء العين»… أن تفسد الطبخة في فصلها الأخير

Reading Time: 4 minutes

ست سنوات غابتها المخرجة التونسية مريم جعبر بعد فيلمها الأول “إخوان Brotherhood”، الذي حاز العديد من التكريمات العربية والعالمية، منها جائزة يوسف شاهين لأفضل فيلم قصير من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2018، وتنويه خاص من لجنة تحكيم مهرجان كلير مون للأفلام القصيرة بفرنسا، إضافة إلى الترشح إلى واحدة من جوائز الأوسكار. 

وتأتي عودتها المفاجئة بعد 6 سنوات ضمن اختيارات المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي، حيث شاركت بفيلمها الطويل الأول الذي يحمل بالعربية اسم “ماء العين”، وبالإنجليزية “إلى من أنتمي؟ Who Do I Belong To“، وهو نسخة أطول من فيلمها القصير “إخوان”، واعتمدت فيه على طاقم التمثيل نفسه تقريبًا.

تستكشف جعبر في فيلمها الطويل الأول مساحات أرحب للتعبير السينمائي، من خلال قصة مثيرة عن أسرة تونسية بسيطة تعيش على الرعي والزراعة في قرية نائية على ساحل تونس الشمالي.

تضطرب حياة الأسرة المكونة من الأم والأب وثلاثة من الأبناء، بعد اختفاء الابن الأكبر وانضمامه إلى مجاهدي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سوريا، وعودته بعد سنوات من الغياب وبصحبته امرأة حامل يقول إنها زوجته.

ماء العين

بحبكة محكمة، وقصة درامية من طراز رفيع، وأداء تمثيلي مدهش من كل طاقم العمل، وأسلوب تغلب عليه الواقعية؛ عالج فيلم “إخوان” قضية انضمام الشباب التونسي إلى تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا بمعدلات كبيرة ولافتة، وهي القضية نفسها التي يعالجها فيلم “بنات ألفة” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، وشاركت به في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته السابقة في 2023.

عنوان الفيلم هو أول ما يلفت الانتباه إلى الاختلاف في المعالجة بين فيلمي جعبر؛ القصير منهما والطويل، سيما وأن مشروع الفيلم الطويل عُرف في منصات الدعم حتى وقت قريب باسم “أمومة Motherhood”، قبل أن يتغير إلى “ماء العين”.

تركز جعبر في فيلمها الطويل على منظور الأم، أو بالأحرى المنظور النسائي بلا أي تعقيدات نسوية، على الأقل حتى الفصل الأخير من الفيلم الذي عنونته جعبر “نور”.

ماء العين

شخصية الأم “عائشة” – الذي لعبته بقدر كبير من الإحكام والتمكن الممثلة التونسية صالحة نصراوي- هي مركز الثقل ومحور الدراما في سردية “ماء العين”، فالفيلم بالكامل يكاد يُحكَى من منظورها، سواء في أحداثه الواقعية أو من خلال تتابعات أحلامها، مع استثناء وحيد في مشاهد الفلاش باك التي يسرد خلالها الابن الأكبر قصة الزوجة الغامضة “ريم”. 

الاختلاف الثاني – والأكثر تأثيرًا- بين الفيلمين، هو البعد الماورائي في حضور “ريم”، ذلك الحضور الصامت طوال فصلي الفيلم الأولين، إذ أنها لا تتفوه سوى بثلاث كلمات في صيغة الأمر هي: “قرّب”، و”نط”، و”اركض”. 

يرتبط حضور ريم بأحداث غامضة تبدأ بقتل أحد خِراف الأب بطريقة بشعة، ومحاولة الأم إخفاء الأمر على الأب الغاضب والمتحفز ضد هذه الضيفة الغريبة والغامضة. ثم يتبعه اختفاءات غامضة ومثيرة للريبة لبعض رجال القرية، وهي الحادثة التي يحقق فيها الشرطي الشاب بلال، الذي يقوم بدوره الممثل التونسي آدم بيسا الفائز بجائزة التمثيل في قسم نظرة ما من مهرجان كان عن فيلم “حرقة”، وهو أقرب أصدقاء الأسرة وصديق أبنائها الثلاثة.

ماء العين

رفقة مدير التصوير الكندي فينسنت جونفيل، الذي تولى كذلك تصوير فيلم “إخوان”؛ تقدم جعبر في فيلمها الروائي الطويل الأول تجربة سينمائية وبصرية شديدة النضج، تزاوج ما بين الاختيارات الجمالية والتعبيرية وتلك الواقعية، في فيلم يداوم التنقل ما بين الواقع والخيال أو الحقيقة والحلم.

تعتمد جعبر في معالجتها البصرية بشكل أساسي على درجة قاتمة من اللون الوردي، نراه في عديد من التفاصيل مثل نقاب الزوجة الغامضة الذي لا يتغير طوال أحداث الفيلم، باستثناء خلال تتابعات الفلاش باك، وفي عجلة الابن الأصغر، أو باب غرفة الابن الأكبر، ونراه كذلك في تبدل الأزهار الصفراء التي تراها الأم في مشاهد اليقظة، بأخرى وردية في أحلامها، ونراه بدرجة أكثر أهمية في صهبة شعر الأبناء الثلاثة وأمهم، في تجسيد للعلاقة الخاصة التي تربطهم بها والتي تتجاوز الجينات الوراثية إلى شيء أكبر، إلى شيء متجاوز أو ماورائي.

ماء العين

يركز الفيلم بشكل صارخ على اللقطات القريبة جدًا للوجوه والعيون والأطراف. تستقر الكاميرا ويتجمد الكادر عند لقطة ليد الأب يمسك بها عصاه التي يرعى بها أغنامه، أو يطارد بها كبشًا شاردًا عن القطيع، ليتأمل ونتأمل معه – نحن المشاهدين- طيفًا واسعًا من المشاعر والانفعالات المعبرة عن صراعه الداخلي. أو تلك اللقطات القريبة لأعين الزوجة الغامضة المثيرة والمرعبة في آن، والتي تحكي الكثير عن ما قد يثور داخلها من مشاعر الصدمة وأهوال ما شهدته كضحية تقليدية لتنظيم بربري. أو لقطة قريبة لفنجان قهوة الجارة فاطمة التي قصدت قدرات عائشة الماورائية في استطلاع الغيب عبر قراءة الفنجان، للاطمئنان على مصير ابنها الذي لحق بداعش هو الآخر، بينما ترفض عائشة الإفصاح عن ما تراه ونراه معها من استبدال لون القهوة الأسود بلون الدم الأحمر في إشارة إلى مصير الابن الغائب.

اختارت جعبر أن تقسم فيلمها إلى ثلاثة فصول، عنونتها “الموج”، و”شروق الظل”، و”نور” على الترتيب. ينتظم الفصلان الأول والثاني في سردية محكمة أقرب إلى الواقعية، مع إرهاصات قليلة ومتقنة لذلك البعد الماورائي في القصة والذي يدفع بها إلى حدود الواقعية السحرية. لكن الإحكام والإتقان يختلان في الفصل الثالث، بعد تغول الجانب الماورائي وزيادة الغموض مع تكرار حوادث الاختفاء في القرية والمواجهة النهائية مع بلال. هنا يفقد الفيلم قبضته المتماسكة على سردية جمالية وتعبيرية واضحة كان قد بدأ بها، وتحمله أمواج متلاطمة إلى وجهة لم يكن يقصدها، فيغيب أي تفسير منطلق من الواقع الذي أقره الفيلم في فصليه الأولين للعلاقة بين ريم ورجال القرية: هل تعاقب الضحية كل جنس الرجال على ما لاقته من أهوال تحت إمرة عصبة من البرابرة في دولة تتجاوز المكان والزمان؟ نهاية صادمة بالتأكيد لفيلم اقترب عمره من الساعتين، ولكنها بلا شك نهاية غير مُرضِية، وإن كانت لن تؤثر في تلقي الفيلم من قِبَل المشاهد الغربي، وهو ما ظهر في اختياره للمنافسة على جائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين، وإن لم ينلها.

اقرأ أيضا: «ماء العين».. واقعية تونسية بنكهة سحرية

شارك هذا المنشور