(*) تحذير: يحتوى المقال على حرق لبعض أحداث الفيلم
في فيلمه الأول مخرجًا، اختار الفنان عبد العزيز المزيني أن يكتب ويقدم نصًا سينمائيًا يشتبك فيه الواقع والخيال، وتمتزج فيه الكوميديا بالتراجيديا. إذ يطرح فيلمه «ليل نهار» قضايا اجتماعية معاصرة من خلال شخصيات غير تقليدية وأسلوب سردي مختلف عن المعتاد، حاول المخرج والمؤلف، عبد العزيز المزيني، أن يوازن فيه بين التجريب والواقعية، محققًا تجربة جريئة، يجدها المشاهد خارجة على المألوف.
يفتتح فيلم «ليل نهار» بمشهدٍ مؤثر يجمع بين «نهار»، ويؤدي دوره الممثل زياد العمري، وعنزته، يستمعان إلى أغنية «ودعتك الله» للفنان «فتى الشميسي» – والد شمس – عبر مسجل راديو قديم. تُبرز هذه البداية الجو الحميمي والشخصي للفيلم، الذي يدعمه المخرج باستخدامه اللقطات القريبة والكادرات الضيقة للإشارة إلى الماضي عوضًا عن اللجوء إلى تقنيات تقليدية مثل الأبيض والأسود في مشاهد الفلاش باك. هذا الاختيار البصري يُظهر براعة المزيني في خلق لغته وعالمه الخاصين.
يتناول الفيلم موضوعًا حساسًا هو «ثقافة الإلغاء» Canceling التي أصبحت من الظواهر في مجتمعاتنا العربية مؤخرًا. في مشاهد متفرقة، نرى كيف يُستخدم التصوير السري/ التلصص وسيلةً للحط من الشخصيات، مثل اتهام «نهار» بالعنصرية وتصويره، أو تصوير «ليل» «لداغر» أثناء إساءته لها، أو حتى المشهد المؤثر على المسرح، عندما ضرب «نهار» «ليل».
تكرار هذا الأسلوب قد يكون إسقاطًا على ثقافة الإلغاء ذاتها، وكيف أنها فقدت قيمتها وتأثيرها الحقيقي. لكن إذا نظرنا إلى الأمر من هذا المنظور، يظهر التناقض بوضوح، إذ أن تلك الثقافة، رغم انتشارها العشوائي كما يطرح الفيلم، لا تزال تحمل تأثيرًا قويًا وتُحدث تغييرات ملموسة في حياة الأشخاص الذين يتعرضون للإلغاء بسبب من تصرفاتهم، حتى وإن كانت قد فُسِّرت تصرفاتهم تلك على نحو خاطئ. المفارقة الساخرة أنها أصبحت ثقافة يمارسها الجميع ضد الجميع بدون اعتبار لما فعله الشخص المعرض للإلغاء، ومع ذلك تحتفظ بقدرتها على التأثير بنفس القوة.
لجأ مؤلف ومخرج «ليل نهار» إلى تقنية مكررة في السرد وهي تقنية الراوي العليم (Voice Over) بصوت «شروق»، ابنة «نهار» وزوجته «ليل» وهو ما نكتشفه في المشهد الختامي للفيلم، ومن الواضح أن المخرج لجأ إلى تلك التقنية لتوضيح خلفية القصة ومساعدة المُشاهد على فهم العالم المتناقض الذي تعيش فيه الشخصيات.
ورغم أن هذا الأسلوب في البداية أضفى بعدًا كوميديًا على السرد، إلا أن التكرار المفرط أضعف من أهمية السرد البصري لصالح صوت الراوي، مما أضعف الفيلم فنيًا بشكل عام. على سبيل المثال، في مشهد «نهار» وهو يطلب من العنزة تحديد مصيره مع «ليل» أضاف تعليق «شروق» الكوميدي على الموقف لمسة فريدة ومرحة، لكنها سرعان ما أصبحت تطفلًا مع تكرارها في السرد حيث بات صوت الراوي يحكم مرارًا على تصرفات الشخصيات، والتحكم في ردود أفعالنا على تصرفاتهم مما ضيّق مساحة المشاهدة.
ومثلما أساء الإفراط في استخدام صوت الراوي إلى حيوية الفيلم وتلقي الجمهور له، بدا خيار استخدام اللقطات المُقرَّبة (الكلوز آب) خيارًا مثاليًا لفيلم كوميدي. هذا الأسلوب، إلى جانب القطع السريع في المونتاج، أضفى إيقاعًا كوميديًا واضحًا. لكن هذا التميز لم يستمر على نفس الوتيرة، وسرعان ما ظهر التكرار ليضعف من تأثير تلك الحيل السردية في بعض المواضع. على سبيل المثال، في مشهد «داغر» مع «شربل» -شخصيتان في الفيلم- داخل القصر، شهدنا في ظرف دقيقة واحدة فقط حوالي 19 قطعًا، معظمها لم يكن له غرض حواري أو فكاهي. بدلاً من ذلك، بدا المشهد وكأنه يعكس حالة من الذعر، ما جعله مربكًا أكثر من كونه مضحكًا.
كما أن استخدام القطعات السريعة المتلاحقة مضافًا إلى غرائبية بعض المشاهد، أحالها إلى مشاهد مربكة ومحيرة للمشاهد أكثر منها كوميدية، فالعشوائية الواضحة في الأحداث وتركيبها أفضت ببعض المشاهد إلى الفوضى عوضًا عن العبث، وشتان بين الاثنين.
الهاجس الأكبر هو كسر الحدود
التحرر من القيود التي تكبح الفرد في التعبير عن أفكاره وفنه هي هاجس كل فنان. ولذا، فإن طرح مواضيع وأفكار جديدة وغير مطروقة هو حلم يتمنى تحقيقه فنانون كُثر، سواء كانت هذه القيود تقنية، سردية، أو حتى مجتمعية. ومع ذلك، يأتي هذا التحرر أحيانًا على حساب المعنى وسياق العمل بشكل عام. وفي «ليل نهار»، استُخدمت نكات بذيئة ومكررة في عدة مشاهد، وهو أمر لا يُعتبر خاطئًا أبدًا إذا كان يخدم القصة والشخصيات بشكل فعّال. لكنها ظهرت وكأنها محاولة لتجاوز الحدود لغرض رفع السقف ودفع الخطوط التي يمكن للفنانين أن يسيروا عليها مستقبلاً فقط. لكن في الوقت نفسه، جاء هذا التحرر على حساب حس الفكاهة لدى الشخصيات، وكأنها مُجبرة على تبني هذا الأسلوب، مما جعلها أقل طبيعة وأقل ارتباطًا بالكوميديا التي من المفترض أن تُقدم.
مغايرة الواقع ظهرت كذلك في إقدام المخرج على استدعاء الموسيقى والغناء لتصبح جزءًا من تركيبة السرد، وإن كان لها مبرر درامي تمثل في كون بطل الفيلم يحترف الغناء، لكن في اختيار المخرج للغناء مخاطرة كان لها أثرها على واقعية الشخصيات.
«ليل نهار» لم يكن سباقًا في الاستعانة بالغناء كرافعة للسرد، فنحن وإن لم نشاهد الكثير من الأفلام السعودية التي تتضمن مشاهد غنائية، لكن هناك سوابق بارزة، منها «طريق الوادي» للمخرج خالد فهد، الذي يُعد من أبرز الأمثلة كونه فيلمًا غنائيًا في المقام الأول. فالتوجه نحو مناطق جديدة كهذه، عندما يُقدَّم بمنطقية فنية وبطريقة سليمة، يمكن أن يكون مصدر إلهام للعديد من صناع الأفلام، خصوصًا في دمج مثل تلك الفنون الشعبية مع الأوبرا كما شاهدنا في «ليل نهار».
في هذا السياق، ظهرت أداءات غنائية مبهرة من الشخصيتين الرئيسيتين، ولكن قد يكون من غير الضروري إدراج مشاهد غنائية في منتصف الحوارات، خاصة مع اتضاح الاختلاف الكبير بين أصوات الممثلين وأصوات المؤدين الغنائيين الذين يشاركونهم أداء الشخصيات نفسها، خاصة مع شخصية «نهار».
لا تعني الآراء الواردة في الفقرات السابقة رفضًا مطلقًا للتجريب، وإنما طرح مسألة بحث المخرجين عن أصواتهم بشكل يأتي على حساب جودة الأفلام المقدمة وعلى حساب المشاهدين، هو أمر يستدعي النقاش. فكم من أفلام حملت بذرة الجودة الفنية في السينما السعودية، تراجع مستواها الفني بسبب من نزوع المخرجين لتجربة العديد من التقنيات واللعب بالعديد من أدوات السرد في فيلم واحد، لمحنا ذلك في أفلام «مثل أحلام العصر» و«ناقة»، هنا لا يدرك المخرجون أن حداثة عهد غزارة الإنتاج في السينما السعودية، لا تعني أن الجمهور نفسه حديث عهد بمشاهدة السينما، مما يحتم عليهم الموازنة بين الطموح الفني وتطلعات الجماهير. فالغرابة وحدها ليست كافية إذا كانت تُطرح بشكل تجريدي لا يُشرك الجمهور، حتى وإن كان الفيلم يستخدم نفس اللغة والثقافة المحليين. فالتواصل الحقيقي لا يقتصر على التشابه في اللسان أو النكتة. بل يعتمد على قدرة الفيلم على بناء روابط تمتد إلى ما وراء الحدود الفردية لرؤية المخرج. إذا ظلت التجربة محصورة داخل إطار ذاتي مغلق، قد يُضعف تأثيرها كعمل سينمائي يُفترض به أن يُخاطب الجماعة بشكل أعمق وأشمل.