فاصلة

مقالات

ليلة مع جيم جارموش… أن تكون ذاتك رغم كل شيء

Reading Time: 7 minutes

في عام 2013، شاهدت في سينما زاوية فيلم “الأحباء فقط يبقون أحياء” لجيم جارموش، أذكر بعدها أنني قمت بأخذ صورة مع بوستر الفيلم المعلق خارج القاعة، واستخدمتها كصورة شخصية على فيسبوك لفترة طويلة. حضرت الفيلم وقتها بعد فترة من معرفتي بجارموش، كنت قد شاهدت كل أفلامه من أقدمها إلى أحدثها، وفي تلك الفترة كان معظم الترشيحات السينمائية القادمة من مجموعات محبي السينما على الإنترنت أو في الواقع، تأتي لمخرجين أكثر جدية وسينمائية وبينهم إنجمار بيرجمان، بيلا تار، وتاركوفسكي. لكن وسط كل ذلك الزخم، تعرفت على صوت جارموش السينمائي، الحر الطليق، وأذكر أنني فُتنت بمدى حريته في صناعة الأفلام، متنقلًا بين الأنواع السينمائية المختلفة وواضعًا بصمته عليها كم دون تفخيم. أضف إلى ذلك لعبه للموسيقى وحبه لها، وتعاونه مع موسيقيين كثر في أفلامه وبينهم نيك كيف وتوم ويتس و أخيرًا ياسمين حمدان، غير إنشائه لفرقته الموسيقية “سكورل وورلد

“. 

معرفتي بشخصيته وأفلامه، كونت لدي في ذلك الوقت رغبة في أن أكون هذا الرجل، لا في صناعة الأفلام ولا الموسيقى، وإنما في طريقة تناوله للحياة وحريته وخوضه لعديد من المشاريع، وأعتقد أني على مدار كل تلك السنوات حظيت بتلك الحرية، لكن تلك قصة أخرى. 

الأهم هنا أنني بعد ذلك العرض الذي شاهدت فيه فيلمًا لجارموش على شاشة السينما بحوالي 10 سنوات أو أكثر، أتيحت لي الفرصة أخيرًا لحضور محاضرة حية معه بتنظيم من سكرين أيرلندا ومؤسسة الفيلم الأيرلندي، صدفة التواجد نفسها تبدو كأنها واحدة من اللقاءات التي تحدث في أفلامه، إذ لم نلتق في مهرجان سينمائي؛ وإنما في العاصمة الإيرلندية التي لم أتخيل يومًا زيارتها. 

على باب المؤسسة، والتي تشبه في روحها سينما زاوية بالفعل، اصطف القادمون لمسافة طويلة، وكلما أتى أحدهم متخيلًا أنه محب جارموش الوحيد أو الأكثر إخلاصًا؛ اكتشف أنه ليس الوحيد على الإطلاق. بعد مدة وجيزة بدأ الطابور بالتحرك، دخل الحشد إلى السينما، ثم دخل جارموش ذاته ومحاوره المخرج الإيرلندي لانس دالي. صفَّق الجميع، وقبل أن يبدأ دالي المناقشة، قاطعه جارموش لخلع الجاكيت الخاص به، ثم تحدث عن كوفيته البوهيمية، والتي كانت ترتديها شينيد أو كونور وبوب مارلي، ثم خلع أيضًا جزءًا من قميص يرتدي تحته تيشيرت كُتب عليه أوزو، في إشارة إلى المخرج الياباني العظيم. هكذا جاء دخوله إلى جو المناقشة بتعبيره عن ذائقتيه السينمائية والموسيقية، عن العالمين اللذين يبدو عليه حبهما حتى الآن حب مراهق لحبيبته الأولى. 

لمدة ساعتين، أحسست بأني مأخوذ تمامًا، لم يخيِّب جارموش توقعاتي عنه، وتحقق حلمي بالاستماع إليه لفترة طويلة، أنقل هنا تلخيص أو جزء من تلك المحاورة، رغم صعوبة نقل طريقة كلامه إلى العربية، فهو يتكلم بحرية وبتشظي كبير، ينتقل من موضوع إلى آخر، ومن جملة إلى جملة لكنه يكون في النهاية منطقًا سليمًا متماسكًا عن رؤيته للعالم وصناعة السينما في هوليوود الآن، ومصاصي الدماء وتأثراته السينمائية، ونصيحته لمن يود أن يصنع فيلمًا في هذه الأيام. 

جيم جارموش

“أحب أن أدعى هاويًا”

بعد المقدمة المبهجة بدأ الحوار، حيث تحدث جارموش عن كيف يرى نفسه كصانع للأفلام: “أعتبر نفسي صانع أفلام هاوٍ، وأعني ذلك بسبب أن أصل الكلمة آت من المحبة، بينما الاحترافية تعني أنك تصنع الشيء لأجل المال، ولا عيب في ذلك أيضًا. حالما يقولون لي (ليس لك حكم على النسخة النهائية) أهرب فورًا، فأنا لا أصنع أفلامًا لغيري، ولا يمكنني العمل في نظام هوليوود. أحب أن أصنع أفلامي كما أراها، مهما كلفني ذلك من صعوبات إنتاجية، ولكني أحبهم كأطفالي. أنا لا أحكم على أي أحد في ما يصنعه، ولكني أتحدث عن أعمالي بالطبع. الأمر كله يدور حول ما تريد فعله. سأخبرك قصة، هناك مخرج ياباني يُدعى سيجون سوزوكي، صنع العديد من الأفلام العظيمة، لكنه عندما دُعي لتكريم في سيول في كوريا الجنوبية، ولأنه صنع تلك الأفلام كمخرج مُكلف من ستوديو، قال لهم (هناك سوء تفاهم كبير، لقد صنعت كل تلك الأفلام من أجل المال)” قالها جارموش وضحك هو والجمهور.

 واصل جارموش: “لقد أثر على الضغط الناتج من الصناعة، ولكني لطالما واجهته من أجل التحكم في النسخة النهائية من الفيلم، لكني واجهت ضغوطات ممن يملكون المال لدرجة مؤلمة. لم أصنع فيلمًا طوال العامين الماضيين لأن الصناعة تغيرت، وكل مرة صنعت فيها فيلمًا، يصبح الأمر أسوأ وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. ديفيد لينش لا يمكنه الحصول على تمويل لصنع فيلمه، تيري جيليام أيضًا! لا أفهم ذلك، هؤلاء الفنانين يجب دعمهم بغض النظر. لو امتلك الممولون شجاعة أكبر لصنعوا المزيد من المال، لكنهم يريدون تكرار نفس القصة في كل مرة، ويعتقدون أن الجمهور لن يقبل الأفلام الأخرى، وأنا أعتقد أن الجمهور ليس غبيًا كما يتصورون”. 

جيم جارموش

“لطالما أحببت رفقة مصاصي الدماء” 

يسأله المحاور كيف عمل في أنواع سينمائية تجارية مثل أفلام مصاصي الدماء والزومبي؛ فيجيب: “الأنواع السينمائية هي أُطُر يمكنك وضع أي شيء بداخلها، أنا محب كبير لأفلام الجريمة، وذلك منذ كنت مراهقًا، كما أحببت أنواع الويسترن وأفلام مصاصي الدماء. أعتبر مصاص الدماء كائن رومانسي، فهم يستيقظون فقط في الليل وينامون في كفن، كما أنهم أذكياء، فهم يعيشون لوقت طويل وبذلك يتعلمون أكثر عن الحياة، وهذا ما أحبه، كل يوم أستيقظ وأبحث عن شيء لأستكشفه، أنا مهووس الآن بالسينما الصينية وأجيالها الستة، والسينما الإيرانية وأفلام جيا جانكي، هذا ما أريد استكشافه، لا أود مشاهدة أوبنهايمر ولا أفلام السوبر هيروز الطائرة. رجوعًا لمصاصي الدماء فهم رومانسيون وأذكياء، على عكس الزومبيز الذي يشبهون عالم المعلومات، مجاز ظريف، لست متأكدًا، ولكني أفضل أن أقضي وقتي مع مصاصي الدماء”.

“تعلم من كل شيء حولك” 

ينتقل بعدها الحوار إلى ما أثر فيه، ومن هم أساتذته ومرشديه السينمائيين فيحكي: “كنت محظوظًا للغاية، إذ بدأت وحولي العديد من أبطالي الشخصيين لأتعلم منهم وأتسكع معهم، مخرجين مثل نيكولاس راي وسام فولر وروبرت فرانك ويوناس ميكاس، كلهم كانوا مختلفين عن بعضهم البعض تمام الاختلاف. بالنسبة لي فإن نيكولاس راي وسام فولر هم أعظم صانعي الأفلام الأمريكيين، رغم اختلافهما، فراي رومانسي، يؤسلب أعماله بشكل جميل ويتضح ذلك من خلال اختياراته لموضع الكاميرا، بينما سام فولر ذو شعور عميق وشخصية قوية، لقد قال لي مرة (يغير صوته) إن لم تثِرك نسخة السيناريو الأولى جنسيًا فارمها في سلة المهملات! (يضحك).  

“هذا ليس أسلوبي بالطبع، لكن رغم الاختلافات بينهم كانت مقابلة هؤلاء الأشخاص مهمة جدًا لي ولمسيرتي. عملت لمدة عام ونصف العام مساعدًا لنيكولاس راي، وكنت مجرد شاب طائش يساعده، لكن ذلك أتاح لي الكلام معه في كل شيء. قرأت مرة حوارًا مع هاورد هوفمان، وهو رجل ذكي للغاية، وقال إن موهبته تكمن في اهتمامه بالعديد من الأشياء وهكذا أرى نفسي أيضًا، فأنا عالم فطريات هاوٍ، أحب الشعر المجازي وتاريخ الدراجات البخارية الأوروبية”.  

“كل أنواع الأشياء، الموسيقى – لا تدعني أبدأ في الكلام عنها أرجوك – لكن الفكرة الرئيسية أن السينما تمتلك كل شيء بداخلها. لديك التكوين والموسيقى والحركة والتمثيل والكتابة والألوان أو حتى غياب الألوان. لطالما أخبرني نيك راي، يمكنك أن تتعلم السينما من خلال الاستماع إلى البشر، أو من خلال شكل جسر، أو قطعة صغيرة من الموسيقى أو مشاهدة مباراة بيسبول، كما قال لأنه لا يمكن أن تُحجم إلهامك ليأتي فقط من السينمائيين، عليه أن يأتي من كل تلك الأشياء التي بداخل الأفلام”. 

“أن تكرر نفس الشيء”

يسأله المحاور عن تكرار تيماته وأنه ينتج رغم ذلك شيئًا جديدًا كل مرة فيقول: “لا أشاهد أفلامي أبدًا بعد صناعتها، فأنا لا أحلل ما قمت وما لم أقم به، لكن يخبرني الناس أني أقوم بتحريك الكاميرا دائمًا من اليمين إلى اليسار واستخدم الكادرات الثابتة وأن إيقاعي يشبه كذا وكذا. أعرف ذلك، لقد كان لدي صديق من بوتان يدعى رزا  (يقصد رزا قائد وو تانج كلان) وهو موسيقي، وكانت لديه لازمة في الكلام تجعله يتلعثم بشكل ما، ولاحظت أن موسيقاه تمتلك نوعًا ما نفس الإيقاع، وهذا ليس مقصودًا، لكنها تفصيلة آتية من داخله بالطبع، وكذلك الأمر معي في صناعة الأفلام”. 

“دائمًا أنظر إلى عملية التكرار والتنويعات الفنية بإعجاب شديد، وهو أمر موجود في الظواهر الطبيعية أيضًا. أدون دائمًا التفاصيل الصغيرة للشخصيات، كما حدث في فيلم “باترسون”، جاءت الفكرة من سائق باص شاعر يُدعى باترسون يعيش في مدينة تُدعى بذات الاسم، فكرة غبية (يضحك) لكن هكذا بدأ الأمر. إذا نظرت مثلًا إلى يوهان سباستيان باخ، لقد كان لديه دزينة من الأطفال، وكان يسعى للحصول على وظيفة كعازف في كنيسة معينة، وبالتالي عندما يسأل الناس الموسيقيين لم صنعتم تلك القطعة؟ (يغير صوته) لقد كنا نحاول فقط أن نكسب رزقنا (ضحك في القاعة) يمكن ملاحظة ذلك أيضًا في أعمال آندي وارهول، وهكذا وبسبب الاضطرار لكسب العيش، يقوم الفنانون بعمل تنويعات على عملهم، ولكن عندما تنظر إلى تلك التنويعات التي صنعها باخ أو وارهول، إنها رائعة بكل تأكيد”. 

ماذا تحتاج لصنع فيلمًك الأول؟ 

يسأله المحاور سؤال افتراضي: “إذا عدت شابًا مُجددًا وأردت صنع فيلمك الأول، ماذا ستفعل؟” فيجيب: “لا أعرف حقًا، ربما أذهب للعب بعض الروك آند رول – أمزح – لا أعرف الإجابة حقًا، ولا أود أن أكون محبطًا، ولكن دعني أخبرك شيئًا، عليك أن تصدق أنك تستطيع صناعة الأفلام”. 

“وإذا كنت تؤمن بذلك، يمكن أيضًا أن تفشل، لكن إذا كنت متشككًا، فإنك بالتأكيد لن تنجح في ذلك. قال لي فيرنر هيرزوج مرة إذا أردت أن تصنع فيلمًا عليك بالتمرين كرياضي، وهذا ليس مجازًا، لقد كان يقصد المجهود البدني، وليس فقط الروح، لذا عليك أن تكون مقاتلًا. لكن الصناعة صعبة، وهنا أنا أقتبس شخص آخر هو دينيس هوبر الذي قال مرة في حوار، إنه من الصعب للغاية صناعة فيلم، حتى إن كان سيئًا فصناعة فيلم سيء تعادل نفس قدر صعوبة صناعة الفيلم الجيد، يعتقد الناس أنك تذهب للتصوير وتعمل مع نجوم هوليوود وكل الجوانب المشرقة للعملية، لكنهم يتناسون أنك تنام لثلاث ساعات فقط وتأكل طعام سيء، لذا عليك أن تكون مستعدًا لذلك”. 

“أنا لست في سياق الشباب حاليًا، والعالم اختلف كثيرًا، ولكني أعتقد أن عليك أن تتبع ما تريده من الأمر، سواء أردت صناعة الإعلانات أو الأعمال الفنية أو التجارية، أنا لست ضد أي شيء ولا أنظر بتعالي إلى أي شيء. لست نخبويًا في ذلك الأمر. أنا انتقائي فقط في اختياري لما أشاهده، أو ما يصل إليّ لكني لا أنظر بتعالٍ إلى اختيارات الآخرين. لذا كل ما يمكنني قوله هو أن عليك أن تجرب معرفة ما تريد أن تصنعه في ذلك العالم وأن تعمل في اتجاهه وتقوم بما تستطيع. صور الفيلم على آيفون، مثل ذلك الفيلم البديع لشون بيكر (تانجرين)، و(ذا فلوريدا بروجكت) وهو تحفة فنية في رأيي. لقد حركني هذا الفيلم بشدة، رغم أن فريقه كانوا ينتقدونه بشدة ويقولون إنه لا يعرف ماذا يصنع، وإنهم يتتبعون هؤلاء الأطفال بلا هدف، وإنه لا يملك سيناريو، ولكنه في النهاية صنع تحفة فنية، لذا فقط أقول اتبع قناعاتك”.

هكذا كان جزءًا من الحوار الذي أجري مع جيم جارموش، والذي خرجت منه مفتونًا وفي حالة من الأمل، سواء بسبب الكلام الذي قيل، وجو الحميمية الموجود في القاعة، أو بسبب الروح التي يتعامل بها مع كل الأسئلة التي توجه له، روح طليقة وجميلة، تحب الحياة والسينما والموسيقى وتخلطهم جميعًا ببعضهم البعض. لكن أكثر ما أثار افتتاني، هو أن جيم جارموش هو مثال حي أنه يمكن للإنسان ببعض التفكير والإرادة والمحبة والملاحظة أن يصنع ما يريد حتى وإن كان عكس التيار.

اقرأ أيضا: “الباقون” لألكسندر باين… دعوةٌ لفتح العين الثالثة

شارك هذا المنشور