فاصلة

مقالات

«ليالي عربية».. أفلام سعودية تجوب المدن الإسكندنافية

Reading Time: 4 minutes

تواصل السينما السعودية خطواتها الواثقة في المشهد السينمائي الدولي، مدفوعة بإنتاجات نوعية ومواهب شابة أثبتت حضورها في أبرز المهرجانات العالمية. ومن أحدث المبادرات التي تعكس هذا الحراك، انطلاق برنامج «ليالي عربية» الذي تنظمه مبادرة «ليالي الفيلم السعودي» بالتعاون مع مهرجان «مالمو للسينما العربية» خلال الفترة من 27 أبريل إلى 8 مايو 2025، وبدعم من «هيئة الأفلام السعودية». ويهدف البرنامج إلى تقديم مجموعة من الأفلام السعودية المختارة في عدد من المدن الإسكندنافية، بما يسهم في تعزيز التبادل الثقافي وتعريف الجمهور الأوروبي بالقصص والمواهب السينمائية السعودية.

شهدت العاصمة السويدية ستوكهولم مساء السبت أولى عروض البرنامج، من خلال فيلم «نورة» للمخرج توفيق الزيدي، الذي عُرض في قاعة ممتلئة بالحضور، في مؤشر واضح على حجم الاهتمام بالفيلم، وبتجربة السينما السعودية عمومًا. تميز العرض بحضور السفيرة السعودية في السويد إيناس الشهوان، إلى جانب عدد من الشخصيات الثقافية والمهتمين بالسينما العربية. ولاقت الأمسية تفاعلًا لافتًا مع الفيلم ومخرجه، الذي قدم بعد العرض نقاشًا مفتوحًا حول خلفيات العمل وتجربته الإخراجية.

ويُعد «نورة» من أبرز الإنتاجات السينمائية السعودية الأخيرة، حيث شارك في الدورة 77 من مهرجان «كان» السينمائي، ونال تنويهًا خاصًا من لجنة تحكيم مسابقة «نظرة ما»، كما حصل على جائزة «فيلم العلا لأفضل فيلم سعودي» في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. تدور أحداث الفيلم في قرية صغيرة في تسعينيات المملكة، ويتتبع رحلة فتاة مراهقة تكتشف ذاتها وتواجه تحديات محيطها المحافظ، في سردية إنسانية بسيطة ومؤثرة، مدعومة بصور بصرية مذهلة من طبيعة العلا التاريخية.

وتستمر العروض في مدن مختلفة، حيث يُعرض فيلم «ليل نهار» للمخرج عبدالعزيز المزيني في مدينة أوميو بالسويد، قبل أن ينتقل إلى غوتنبرغ، ثم فيلم «السنيور» للمخرج أيمن خوجة في مالمو. أما في كوبنهاغن، عاصمة الدنمارك، فيُعرض فيلم «فخر السويدي» الذي أخرجه كل من هشام فتحي وعبدالله بامجبور وأسامة صالح، ويتناول بأسلوب درامي قضايا التعليم والتحفيز والقدرة على التغيير. وفي فنلندا، سيُعرض فيلم «ثقوب» للمخرج عبدالمحسن الضبعان في مدينة تامبيري، مقدّمًا سردًا تأمليًا يتناول العزلة والصراعات الداخلية.

وتأتي هذه المشاركة السعودية ضمن فعاليات مهرجان «مالمو للسينما العربية»، الذي يُعد منصة رئيسية لعرض الأفلام العربية في أوروبا منذ انطلاقه عام 2011. ويكتسب المهرجان أهميته من كونه يجمع سنويًا نخبة من الأفلام التي سبق عرضها في مهرجانات عالمية مرموقة مثل «كان» و«فينيسيا» و«تورونتو»، ويوفر فرصة نادرة للجمهور الأوروبي للاطلاع على الإنتاجات العربية خارج الإطار التجاري التقليدي. من هنا، تشكل المشاركة السعودية في هذه الفعالية خطوة استراتيجية مهمة، لما تتيحه من فرص للترويج للسينما السعودية، وبناء علاقات مهنية مع صنّاع الأفلام العالميين، وتبادل الخبرات، وتوسيع قاعدة التوزيع والتلقي لأعمال المخرجين السعوديين.

وإلى جانب عرض الأفلام، توفّر الفعالية منصة للحوار الثقافي والتفاعل بين الجمهور الأوروبي وصنّاع الأفلام السعوديين، سواء عبر النقاشات المفتوحة بعد العروض أو الفعاليات المصاحبة. وتساعد هذه اللقاءات على تعزيز الفهم المتبادل بين الثقافات، وتقديم صورة معاصرة ومتنوعة عن المجتمع السعودي، بعيدًا عن النماذج النمطية التي طالما اختزلت المجتمعات العربية في صور محددة في الإعلام الغربي.

وتتميز الأفلام السعودية المشاركة في البرنامج بتنوعها الأسلوبي والموضوعي، حيث تحمل كل تجربة طابعًا خاصًا، يعكس رؤية مخرجها ويقدّم جانبًا مختلفًا من الحياة السعودية. ففي «نورة»، نشاهد سردًا دراميًا هادئًا يرصد التحولات الداخلية لفتاة صغيرة، بينما يعكس فيلم «فخر السويدي» قيم التحفيز والعمل الجماعي ضمن إطار درامي تربوي. أما فيلم «ثقوب» فيغوص في عوالم نفسية معقدة، ويعتمد على لغة بصرية كثيفة تأملية. وتبرز الكوميديا من خلال فيلمي «السنيور» و«ليل نهار»، حيث يقدم الأول قصة شاب يتغير مجرى حياته نتيجة حادثة طريفة تجعله يدّعي شخصية مختلفة، فيما يستعرض الثاني سلسلة من المفارقات الساخرة التي يمر بها بطل الفيلم خلال ليلة واحدة.

ورغم تنوعها، تتقاطع هذه الأعمال في نقطة واحدة: تقديم قصص نابعة من الواقع السعودي، تتناول الإنسان بمختلف أبعاده، وتسعى إلى تجاوز الصور النمطية لتقديم سرديات صادقة عن الحياة، والهوية، والانتماء. هي أفلام تتحدث عن أحلام الشباب، عن التحولات الاجتماعية، عن التحديات اليومية التي يواجهها الفرد في مجتمع سريع التغير، وعن العلاقات الإنسانية بكل ما تحمله من تناقضات وتفاصيل.

تجربة «ليالي عربية» تؤكد أيضًا أن السينما السعودية لم تعد حبيسة السوق المحلية، بل باتت تمتلك أدواتها ولغتها الخاصة التي تمكّنها من التحدث إلى جمهور عالمي، بلغته، ومن خلال قضاياه. فالجمهور الإسكندنافي الذي تابع عروض البرنامج لم يكن يتعامل مع الأفلام على أنها «غريبة» أو «شرقية»، بل كأعمال فنية تحمل رؤى إنسانية تتقاطع مع تجاربه وقيمه. وهذا ما يجعل من السينما وسيلة فريدة للحوار، ليس فقط بين الشعوب، بل بين الأفراد، وبين الثقافات، وبين الأجيال.

في ظل هذا السياق، تبدو مشاركة السينما السعودية في هذه الجولة بمثابة خطوة إضافية نحو ترسيخ حضورها الدولي، وإثبات قدرتها على المنافسة، لا من خلال الدعم المؤسسي فقط، بل أيضًا بفضل جودة المحتوى، وصدق السرد، وقوة التعبير. وهي خطوة تعكس كذلك إيمانًا متزايدًا من قبل صناع القرار بضرورة دعم الفن كوسيلة للتعبير الحضاري، وكمجال واعد للاستثمار الثقافي والاقتصادي.

شارك هذا المنشور

أضف تعليق