في لحظات الإنهاك القصوى، عندما يتحوّل الروتين اليومي إلى طاحونة لا تترك مجالًا لالتقاط الأنفاس، يصبح الإنسان كائنًا هشًا، يُمسك بأطراف وجوده خوفًا من السقوط، لكن عينه في الوقت ذاته معلّقة على تلك الهاوية التي يشعر أنها تقترب منه ببطء. فيلم «لو كان لديّ أرجل لركلتك If I Had Legs I’d Kick You» للمخرجة الأمريكية ماري برونستين هو تأمل في تلك اللحظة تحديدًا: لحظة التوازن على حافة الانهيار، حين لا يكون السؤال «كيف أنجو؟»، بل «إلى متى يمكنني أن أواصل قبل أن أسقط؟». فيلم عن الاستنزاف بجميع اشكاله الخانقة، رحلة داخل عقل امرأة تتآكل ببطء، وفي الوقت ذاته أيضًا هو عن سخرية القدر، عن لحظة تصطدم فيها الكوميديا السوداء بجدران الألم، فلا نعرف: هل نضحك؟ أم نبكي؟ أم نفعل كـ«ليندا»، نصرخ في الوسادة، ثم نمسح دموعنا، ونفتح الباب بوجهٍ مبتسم؟
منذ اللقطة الافتتاحية، تُعلن برونستين عن نهجها البصري، إذ تختار أن تبدأ الفيلم بلقطةٍ قريبةٍ على وجه ليندا (روز بيرن)، وجهٌ مُحاصَر، كأنه محبوسٌ داخل الإطار. العيون زائغة، الابتسامة مترددة. إنه وجهٌ لا يحتاج إلى كلمات ليروي قصته. الوجه وحده هو الرواية: قصة امرأة على وشك الانهيار، لكنها تبتسم. امرأة ترغب في أن تصرخ، لكنها تقول «أنا بخير».
ليندا، ليست بطلة ملحمية، بل شخصية تُشبه كثيرين. كائن بشري مطلوب منه أن يمنح الآخرين القوة، بينما يتداعى هو من الداخل. في كل صباح، ترتدي «ليندا» قناع الصلابة، لكنها تعرف – ونحن نعرف معها – أن هذا القناع هش، وأن التشققات تحته تتسع، تتقن فن الاستماع، لكنها عاجزة عن إسماع صوتها. ابنتها مريضة، تحتاج إلى عناية دائمة. زوجها غائب، يغيب حضوره في الفيلم كما يغيب عن حياتها.

ابنتها تصفها في أحد المشاهد بأنها «مطّاطة، مثل المعجون»، جملة تبدو عابرة لكنها تلخص جوهر شخصيتها. «ليندا» هي تلك المرأة التي تُشدّ من كل اتجاه، تُطوّع، تُضغط، لكنها لا تُكسر، ليس لأنها قوية، بل لأنها فقدت صلابتها، وتحولت إلى مادة مرنة تساير الضغط… حتى يتآكل كل شيء.
يتجرأ الفيلم على طرح أكثر الموضوعات حساسية: ماذا لو أن الأمومة ليست ذلك الملاذ المقدس الذي تمنح فيه المرأة ذاتها بالكامل بحب غير مشروط؟ ماذا لو كانت الأمومة، في بعض الأحيان، عبئًا ثقيلًا، وعلاقة مشبعة بالتوتر والإنهاك والشعور بالذنب؟ ابنة «ليندا» مريضة، تحتاج إلى رعاية طبية مستمرة. ليست «الطفلة المثالية» التي تملأ البيت ضحكًا وأملًا. هي مصدر قلق، مطالب، حاجة لا تنتهي. حب “ليندا” لابنتها موجود، لكنه مشوب بالتعب. هناك لحظات نراها فيها تحدق في ابنتها ليس بحنان، بل بعينٍ خالية، كأنها تسأل نفسها: «إلى متى؟».
وفي أحد المشاهد الأكثر إيلامًا، تعترف لطبيبها النفسي (كونان أوبراين) بأنها أحيانًا لا تشعر بشيء تجاه ابنتها. إنه اعتراف لا يُقال، لكنه الحقيقة التي تعرفها كثير من الأمهات. برونستين تزيل القناع عن الصورة المثالية للأمومة، لتكشف الجانب الآخر: أن تكوني أمًا، يعني أحيانًا أن تكوني منهكة، أن تحبي رغمًا عنك، أن تشعري بالذنب لأنك تمنيت – ولو للحظة – أن تكوني بلا مسؤوليات. برونستين لا تحاكم شخصياتها، ولا تدينها. هي فقط تكشف حقيقتها. الأمومة هنا ليست فعلًا مقدسًا، بل هي تجربة بشرية، بكل ما تحمله من لحظات حب، ولحظات تعب، ولحظات عجز.

لكن الفيلم، رغم قتامة موضوعاته، ليس فيلمًا سوداويًا بالمطلق. إنه فيلم يعرف كيف يستخرج السخرية من قلب البؤس. الضحك هنا هو لحظة سخرية يطلقها الإنسان في وجه الحياة. مشهد «ليندا» وهي تصرخ في الوسادة بعد تلقيها خبرًا سيئًا، ثم تفتح الباب لمرضاها بابتسامة مزيفة، هو ذروة هذه المفارقة. نصرخ وحدنا، ثم نمسح دموعنا، ونقول للعالم: «كل شيء على ما يرام». مشهد آخر مع الهامستر في السيارة، حيث تتحول رحلة بريئة مع ابنتها إلى فوضى كاملة، هو أحد أجمل مشاهد الفيلم. الضحك هنا ليس على الموقف، بل على عبثية الحياة، والاستسلام لهذا الجنون.
«لو كان لديّ أرجل لركلتك» هو فيلم عن الإنسان الحديث. عن أولئك الذين يستيقظون كل صباح، يضعون قناع الصلابة، ويمضون. عن أولئك الذين يعلمون أن الثقوب لن تُسد، وأن الماء لن يتوقف، لكنهم يبتسمون مع ذلك. عن الهشاشة، لكنه أيضًا عن المقاومة، تلك المقاومة الهادئة التي لا تحتفل بها الأفلام. مقاومة الذين لا ينتصرون، لكنهم لم يسقطوا بعد.
اقرأ أيضا: «برج الجليد».. انعكاسات سينمائية في مرايا الأسطورة