عندما خرجت من فيلم لوميير السينما الذي عُرض في مهرجان البحر الأحمر، سمعت شخصاً ببدلة رسمية زرقاء يقول لي: «انتظر، هناك مشهد متبقٍّ». كان هذا الشخص تييري فريمو، مدير مهرجان كان السينمائي.
ما يجعل الفن فنًا هو قدرته على اختراق ذكرياتك وحاضرك وماضيك. الفن ما يجعلك تفكر كثيراً وتحلم أكثر، يغوص في ذكرياتك ويثري حاضرك. الفن، وخصوصاً فن السينما، هو بوابة لفتح مدارك عقلك. تُوضَع لك الأحداث وكأنها أحداث يومية قد تحصل لك في حياتك، أو أحداث خيالية قد تتخيلها في صحوتك، أو أحلام سريالية قد تحلم بها في نومك، أو رؤى قد تراودك في لحظة انتشائك بهذا الفن العظيم.
ما يجعل السينما فنًا يعود فضله للعديد من السينمائيين الأوائل، مثال: ويليام ديكسون، إدوارد مويبريدج، جورج ميلييس، والأخوين لوميير. وتحديداً الأخوين لوميير، كما هو متعارف، فإن لوميير أوغست ولويس هما من طوّرا مفهوم تصوير الفيلم باختراعهما السينماتوغراف. وحثهم على التجريب المستمر والخوض في غمار رحلتهم التعليمية على اختراعهم الجديد. قدّم لوميير العديد من الأفلام التي أرسخت حضورهم في اختراعهم الجديد، ومنها وصول القطار إلى المحطة وخروج العمال من المصنع. وتتصف أعمال بدايات لوميير بالتسجيلية والوثائقية.
يفتتح تيري فريمو فيلمه الذي يعدّ رسالة حب وتذكيرًا للأشخاص الذين نسوا فضل لوميير على السينما ككل، ولكن هذه الرسالة معطّرة ومقدّمة مع باقة ورد، خصوصاً للسينمائيين ككل. كيف؟
أن يتم ترميم فيلم من قبل شخص يعشق الأفلام لجمهور كذلك يعشق الأفلام ويتناولها كطعام ثلاث مرات باليوم، هو كل ما يتمناه أي سينمائي محب وعاشق للأفلام. وتم تقديمها بشكل مميز من قبل تيري. الفيلم هو مجموعة ليست بسيطة من أفلام لوميير، عددها مئة فيلم، تم ترميمها بالكامل من قبل معهد لوميير في ليون. يروي تيري خلال الفيلم بعض الحقائق والتعليقات الفكاهية حول الأحداث التي تحصل في كل الأفلام التي عُرضت في فيلمه، لأنه يقول إنه من الصعب ألا تشعر بالملل خلال مشاهدتك لهذه المجموعة الكبيرة من الأفلام في جلسة واحدة. ولكن أستطيع أن أختلف معه في هذه النقطة؛ أفلام لوميير أصبحت كما الواجب الذي يجب على جميع طلاب السينما أن ينجزوه.
ما يميز سينما لوميير هي أنها خالصة ومليئة بالتجريب. وما يضعها في خانة الذكر والشهرة الواسعة هو بكل اختصار الاستمرارية. أنتج الأخوين لوميير حوالي 1400 إلى 1500 فيلم خلال الفترة ما بين عامي 1895 و1905، وحاول الفيلم الذي أخرجه تيري أن يربطنا بقصة واضحة. هي ليست مجرد أفلام مجمعة ومعروضة، إنها قصة كاملة ببداية ونهاية.
لماذا أوقفني مدير مهرجان كان؟ لأنني كنت الشخص الوحيد الذي قرر أن يخرج من القاعة قبل الإشعار بالنهاية. ولكن لم أكن أعلم أن تييري يريد أن يرد على لويس لوميير عندما قال إن السينما اختراع بلا مستقبل، فوضع تيري مشهداً لفرانسيس فورد كوبولا. ذلك المشهد هو إعادة خلق لفيلم خروج العمال من المصنع من قبل فرانسيس كوبولا. لماذا صنعه؟ تاريخاً ومناهضةً لما قدمه لوميير على مر السنين وتأثيرهم الفارق في صناعة السينما اليوم، وإثباتًا لهم بأن السينما اختراع ذو مستقبل منذ بدايات السينما.
الآن، وبعد مئة وثلاثين سنة، تجمع العديد من الأشخاص من مختلف بقاع الأرض أمام شاشة العرض الكبيرة لرؤية أفلام لوميير، ليضعوا هم كذلك بصمتهم ويقولوا: السينما اختراع غيّر المستقبل.
وأنا أشاهد هذه الأفلام، بدا لي كأنني أعيش لحظات ميلاد السينما. رأيت وجوه العمال المغادرة، خطواتهم الممزوجة بالحماس والتعب، ونساء يحملن سلالاً مليئة بالأمل. تخيلت كيف كان الجمهور يشاهد هذه الصور لأول مرة، دهشتهم من القطار القادم نحوهم وكأنه سيخترق الشاشة. السينما في بداياتها كانت تحمل عفوية نادرة، تلتقط الحياة كما هي، دون تزييف أو تصنع.
إن ما يجعل أفلام لوميير عظيمة ليس فقط تقنيتها، بل صدقها. لم يكن لديهم سيناريوهات معقدة أو ممثلون بارعون، فقط كاميرا وأعين مفتوحة على العالم. هذه البساطة تحمل قوة هائلة؛ فهي تجعلنا ندرك أن الفن يمكن أن ينبع من أكثر الأشياء بداهة إذا ما رأيناه بعين جديدة.
بعد كل هذا، أعود لأفكر في فكرة السينما كاختراع بلا مستقبل. ربما في لحظة ما، كانت هذه العبارة حقيقية، ولكنها اليوم تبرهن على العكس تماماً. السينما أصبحت لغة تجمع الثقافات وتكسر الحدود. عبر الشاشة، يمكن لأي شخص أن يسافر إلى أماكن لم يزرها أبداً، أن يعيش تجارب لم يخطر له أن يعيشها، وأن يرى العالم من أعين لم يكن ليعرفها لولا هذا الفن.
الأخوين لوميير قدما لنا المفتاح، وبقية السينمائيين استمروا في فتح الأبواب. نحن الآن في زمن حيث تتحدث الأفلام بكل اللغات، وتشكل جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية. الأفلام لم تعد مجرد تسلية؛ أصبحت وسيلة لفهم العالم ولرواية قصصنا.
إن السينما ليست مجرد اختراع، بل هي حالة من الحلم المستمر. كل فيلم هو نافذة تفتح على عالم جديد، وكل شاشة عرض هي مرآة تعكس جزءاً من روحنا. لوميير وغيرهم من الرواد لم يخلقوا فناً وحسب، بل قدموا لنا وسيلة للتواصل مع أنفسنا ومع الآخرين.
السينما اختراع لم يغير فقط المستقبل، بل صنعه. هي وسيلة لكتابة التاريخ، لكنها أيضاً وسيلة لرسم ما لم يحدث بعد. وبين ماضٍ غني بأفلام لوميير وحاضر ينبض بالتجديد، يبقى السؤال دائماً: ما الذي سنكتبه في الصفحة القادمة من هذا الحلم المستمر؟
اقرأ أيضا: ثلاثون عاماً على «حرارة» مايكل مان