فاصلة

مقالات

لمحة من سينما كوروساوا

Reading Time: 5 minutes

كمبرر للكتابة، أو كعذر لاقتحام مجال غريب عليه، أو ربما كخوف من أن الكتابة قد لا تعطيه كما أعطاه شريط الفيلم السينمائي، يحكي أكيرا كوروساوا في مقدمة سيرته الذاتية حكاية عن عَرَق الضفدع، وهو مادة دُهْنيَّة كان اليابانيون يستخرجون منها مرهماً لعلاج الجروح والحروق في زمن الحرب العالمية. يصطاد الياباني الضفدع، ويضعه في صندوق صغير تُغَطَّى جدرانه بالمرايا، فيرى الضفدع صورته مُنْعَكسة على المرايا، فيبدأ في إفراز مادته الدُهْنيَّة الشبيهة بالعَرَق. يجمع الصياد الياباني فيما بعد العَرَق الإجباري عن جلد الضفدع بالكشط ثم يغليه لبضعة أيام، وهكذا يحصل على المرهم الثمين.

إن الإلحاح على أكيرا كوروساوا في كتابة سيرته الذاتية أشبه بوضعه في غرفة مُغطاة بالمرايا، وتركه وحيداً يتَعَرَّق بما فيه الكفاية ثم يأتي الناشر، ويكشط عن جلده مادة الكتابة، ويُقدمها في كتابٍ كمرهم للقارئ الجريح.

Kurosawa Akira | Biography & Films | Britannica

قليلة هي الحكايات التي تتمثل موضوع الكتابة بتلك القوة. أولاً تطغى وحشية الاصطياد قبل أي شيء، وكأنها شرط أولي لوجود الكتابة، وهذا يعني أن الكاتب الضحية بعيد عن أخذ رأيه في عملية الصيد. ثانياً يتم تهذيب الوحشية إلى خداع عبر تهيئة مناخ زائف للواقع، وبما أن الضفدع في بيئته الواقعية يُفرز عن طيب خاطر مادته الدُهْنيَّة، أو عَرَقه كنوع من الاستجابة البيولوجية التي تتناغم مع سلوكيات أبناء جنسه، فإن غرفة المرايا توفر لكوروساوا البيئة الاصطناعية لرؤية من زوايا مختلفة، وهو الخبير في النظر لزوايا الكاميرا، كل ما في الأمر أن الخدعة البريئة وضعتْ كوروساوا، دون أن يدري، أمام الكاميرا بدلاً من الوقوف خلفها، وعادةً يكون كوروساواً قاسياً مع مَنْ يقف أمام الكاميرا فقط لأنه هو نفسه خلفها، وبهذا يزداد إفراز العَرَق.

ثالثاً استعارة المرآة في وصف الكتابة عزيزة على قلب الأدب لا سيما إذا تضاعفتْ إلى مرايا مُتقابلة. أين سيجد أكيرا كوروساوا هذا الكم من الضفادع؟   

Dreams (1990) directed by Akira Kurosawa • Reviews, film + cast • Letterboxd

في فيلم “أحلام” 1990، لأكيرا كوروساوا، الحلم الأول تحت عنوان “الشمس تشرق من خلال السحب”، هناك طفل صغير بكيمونو أنيق، تحذره أمه من أن الشمس في وسط السماء، والسحب تمطر، لا خروج اليوم، فالثعالب، وهي كائنات فوق بشرية، تقيم احتفالاتها في الغابة، ولا تحب أن يراها أحد، كعادة الكائنات فوق البشرية، الاسطوانة المشروخة التي تتردد نغمتها العرجاء، الملتوية، عبر كل العصور، لا تحب أن يراها أحد. الرؤية تخدش هيبتها.

الطفل الصغير بعظامه الرقيقة، يتقدم في الغابة. كان كوروساوا في الثمانين من عمره، وهو يصنع هذا الحلم، يفصله عن الموت ثماني سنوات، 1998.

April Showers: Kurosawa's Dreams - Blog - The Film Experience

جذوع الأشجار السميكة تُخفي الطفل الصغير. رسوخ جذع الشجرة، وسمكه المكين، يحاكي سبعين عاماً من التربية الجمالية، على اعتبار أن كوروساوا تلقى تربيته الجمالية الفطرية منذ العاشرة من عمره. الطفل الريشة الهوائية، وراء جذع الشجرة، صفعة على وجه الزمن.

تظهر الثعالب الفوق بشرية، الأنانية، مُحتفلة بضوء الشمس والمطر، وتلمح العين المتلصصة البريئة. بنذالة معهودة في الكائنات الفوق بشرية، يذهب أحد الثعالب لأم الطفل، ويسلمها سلاحاً أبيض، ليقتل به الطفل نفسه. الأم المطيعة للثعالب الفوق بشرية، تعطي السلاح الأبيض لطفلها، إمّا أن يقتل نفسه، أو يطلب الغفران من الثعالب الفوق بشرية التي عادةً لا تغفر للكائنات البشرية. يسأل الطفل أمه غير مُدرك حجم الكارثة. أين تعيش الثعالب؟ تجيب الأم: تحت قوس قزح.  

Bodies of Water, Bodies of Text: The Permeable Frame in Akira Kurosawa's Rashomon David Schwartz (John

أثناء التحضير لفيلم “راشومون” 1950 للمخرج أكيرا كوروساوا، طارتْ شركة الإنتاج من السعادة، لمعرفتها أن الفيلم يتطلب بناء ديكور واحد، بوابة معبد، إلا أن تلك السعادة تلاشتْ أمام تفاصيل بناء الديكور الواحد.

اكتشفتْ شركة الإنتاج أن تكاليف بناء بوابة المعبد الواحدة التي يريدها كوروساوا، تساوي تكاليف بناء 100 بوابة أخرى. كانت بوابة المعبد العملاقة في تاريخ ديكورات السينما، علامةً لا تُنسى.

Rashômon (1950) | MUBI

يقوم فيلم “راشومون” على ثلاثة بلوكات مكانية، بوابة المعبد الكبيرة، الغابة، دار العدل. الوحدات المكانية الثلاثة قائمة في فراغ زمني، ولهذا يكون الانتقال في زمن الفيلم من مكان لآخر، عبر القفز الخشن الذي يوحي بالعزلة. تقوم دراما الفيلم على أن أحد النبلاء يُقتل في غابة، وتُغتصَب زوجته، ويُتهم أحد قطّاع الطرق بارتكاب الجريمة، لكن أحد الحطابين شاهد الحادثة بمحض الصدفة، وعندما يسترجع الفيلم روايات حادثة القتل، فإنه يخفي الحقيقة، بدلاً من كشفها.

Can't Explain: Rashomon (1950)

فهناك مشهد لانتحار النبيل، ومشهد لقتله بيد زوجته، ومشهد لقتله بيد قاطع الطريق، والمشاهد الثلاثة ترقى لصدق الحقيقة. في العادة السينما التقليدية لا تغفر نزاعاً فلسفياً حول جريمة قتل. هنا تبدو بوضوح قرابة كوروساوا في غموض جريمته مع جرائم دوستويفسكي.

كان كوروساوا يفكر في السينما الصامتة، وهو يصنع فيلم “راشومون”. يفكر تحديداً في التعبير البصري المفرط. بوابة المعبد العملاقة بأعمدتها المرتفعة، وسقفها نصف المتهدم، الشبيه بشراع شاهق لسفينة قراصنة من عهد بائد، وتكسير مياه المطر على درجات سلالم البوابة.

إن مَشَاهِد تعقيدات النفس البشرية التي تُناقَش بين الكاهن والحطّاب وواحد من عامة الناس، تحت وابل المطر، وبنصف حماية من سقف المعبد المتهدم، ومدخله الأمامي، ودرجات السلالم الواسعة، هي من المَشَاهِد البصرية التعبيرية القصوى في فيلم “راشومون”.

وكما الشخصيات عند دوستويفسكي، لا تحتاج شخصيات كوروساوا في فيلم “راشومون”، كثيراً من الضغط الدرامي حتى تعترف بغموض وتضارب انفعالاتها، ولهذا يبقى ممثل دار العدل أو دار القضاء، غائباً عن الحضور الجسدي أو الصوتي، وغيابه يعني أن الاعتراف لا قيمة له، وأن العقاب متروك لتقدير الشخصيات، لتقدير حجم وفداحة ذنوبها، لتفرض على نفسها العقاب المناسب.

Rashômon (1950) d'Akira Kurosawa : un Lion d'or matriciel pour le cinéma japonais | LeMagduCine

بصرياً يعني الغياب البارد لممثل دار العدل، أن اعتراف الشخصيات مُوجَّه إلينا مباشرةً، مُوجَّه إلى عين الكاميرا، أي إلى عين المُشاهِد. من أكثر الروايات رهبةً وعبثاً أمام دار العدل، هي رواية الوسيط النفسي الذي يتحدث باسم النبيل المقتول. تحية كوروساوا لمجد السينما الصامتة.

ملابس الوسيط النفسي البيضاء تطوحها الرياح، وملامح وجهه العابسة، نظراته الآتية من قاع الجحيم، الحاجبان الأسودان المرسومان بحدة وتأهب أعلى الجبهة، على طريقة مسرح النو. ما الذي يقف حائلاً أمام عقاب شخصيات فيلم “راشومون” طالما أنها تعترف بذنوبها؟ الحائل هو تبرير وجودها، فهي شخصيات أنانية تسرق وتكذب وتخون وتقتل، في غياب تام لمعيار الحقيقة الواحدة، أو في حضور كثيف لحقائق لا تُحصى ولا تُعد.

Rashomon-142

دائرة من الاتهامات المُتَبَادَلَة تعصف بشخصيات الفيلم. طفل رضيع يوضع في جانب من بوابة المعبد. الرجل العامي يسرق بوحشية لفائف الرضيع، الكيمونو، وربما وتعويذة الحماية. الحطّاب يتهم الرجل العامي بالقسوة، والرجل العامي يتهم أهل الرضيع الذين تركوه، تحت المطر، ويتهم أيضاً الحطّاب الذي سرق خنجراً مُطعماً باللؤلؤ من مكان الجريمة، وأخفى في شهادته أمام دار العدل، أمر الخنجر الخاص بزوجة النبيل المقتول. بينما يشك الكاهن في إنسانية الحطّاب الذي يريد أن يأخذ الطفل، ليربيه مع أطفاله الستة.  يحتاج كوروساوا إلى ظروف درامية قصوى، ليكشف الاضطراب العميق في الأخلاق الإنسانية.

خلفية فيلم “راشومون”، هي حرب أهلية في القرن العاشر الميلادي، طواعين، مجاعات، قطَّاع طرق، جثث قتلى في كل مكان.

في جلسة على المقهى مع مخرج مصري كبير، يقترب من الثمانين، قال لي بأنه يعاني من اضطراب الذاكرة. وكان هذا رده على العودة للتدريس. فصل دراسي فقط لعام 1990 عن السينما اليابانية.

كلفني رئيس قسم السيناريو في المعهد العالي للسينما، بعرض العودة على المخرج الكبير. وهو يشرب قهوته، كانت الدردشة متقطعة عن السينما اليابانية. تذكَّر بصعوبة حبّات أرز يلتقطها فلاح من على أرضية خشبية في فيلم “الساموراي السبعة” 1954. عندما ذكرتُ اسم فيلم “راشومون”، ابتسم المخرج الكبير، وخفّ عن كاهله عبء السنوات، ثم رفع يده في الهواء إشارةً إلى علو بوابة المعبد في الفيلم. جاءتْ إشارة يده قبل لحظات من إسعاف ذاكرته بكلمات عن الفيلم، ثم شبَّه سقف بوابة المعبد بشراع سفينة يطعن السماء.  

اقرأ أيضا: «هوليوود الجديدة» في كانّ: جيل الستينات لم يقل كلمته الأخيرة

شارك هذا المنشور