فاصلة

مراجعات

«لعبة الخلق».. عن طموح الكمال ومطاردة الخيبة

Reading Time: 3 minutes

من بين أفلام التحريك القصيرة التي عرضت خلال الدورة الحادية والثمانين لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، استوقفني فيلم «لُعبة الخلق Playing God» للمخرج الإيطالي ماتيو بوراني Matteo Burani، وهو فيلمه القصير الذي اشتغل عليه كاتبًا ومخرجًا فنيًا من خلال ستوديو كروما للتحريك Studio Croma Animation.

خلال تسع دقائق هي مدة الفيلم، يراهن بوراني على توظيف مهاراته المكتسبة في التحريك في أفلام مخرجين آخرين عملوا لصالح الستوديو نفسه، كما راهن على دعم رفاقه للخروج بعمل صارخ؛ ليخرج هذا الفيلم بتقنية التوقيف الدقيق Stop motion، ويحصل على تنويه خاص وثمين في مهرجان بهذا الحجم. هذا التنويه أبهج الفريق الذي بدا متحفزا أثناء العرض، حين ألقى المخرج كلمته بكل حماس، وتلقى الجمهور الفيلم بكل ترحاب، فالتسع دقائق قادرة على خطف الأنفاس، وترقب ما الذي يريد قوله شاب إيطالي في فيلم يحمل هذا العنوان الإشكالي، والذي تعمدت التخفيف من ترجمته هنا مراعاة للذائقة العربية.

اللعب والعبث هما ما يسم الفيلم، فهو يدخل دهاليز صانعٍ للصلصال في معمله، حيث نرى مجموعة من التماثيل غير مكتملة الصُنع، وكأن من صنعها غير قادر على إتقان الصنعة رغم دأبه على المحاولة مرارًا كما يتضح من عدد المحاولات المسجل في الدفتر وهو 815، في إشارة لأن هذا هو عدد النماذج الشائهة التي نراها في الجوار. لدينا إذن تعداد واضح للخيبات يؤشر لنا بمعرفة مدى مهارة هذا الحرفي الذي نشاهده، والشواهد القليلة من الرقم أمامنا، فبقية العدد ربما تكون أكثر قسوة وبشاعة، بينما يلوح في الأفق بصيص أمل من خلال النموذج الذي أمام أعيننا، إذ يبدو أن العملية تسير نحو الصواب بهذا التمثال على أقل تقدير، لهذا يتحفز المشاهد في تقليل الحمل الذي يتلقاه من جرأة العنوان والذي يُتًرجم على نحو دقيق إلى «لعبة الألوهية» أو «لعب دور الإله»، وهو التخفيف الذي يتحقق من تناقض العنوان مع مسار الحكي الذي يتمحور حول خيبة صانع يسعى للنجاح بخلق النموذج الكامل، قبل أن ينجح في مسعاه، وتشكل يداه نموذجًا نراه يكاد يكون كاملًا؛ ينتقي للنموذج عينيه ثم ينظر حوله ويرتعب من كمية المشوهين من حوله، فيترك نموذجه الموشك على الاكتمال كما هي عادته كما يتبين لنا، تاركًا سؤالًا حائرًا عن المعنى، كما ترك صمويل بيكيت سؤاله في انتظار غودو.

«لعبة الخلق»
«لعبة الخلق» 2024

نتيجة الفيلم أرضت المخرج ماتيو بوراني، الذي خرج سعيدًا هو ورفاقه بنتيجة عمل بهذا الحجم، وأثنى على المهرجان والاستقبال الذي لاقاه الفيلم والذي يطمع ماتيو وزملاؤه في أن يلفت الأنظار إلى صناعة أفلام التحريك (أنيميشن) في إيطاليا، إذ يرونها -كما يقول- تأتي في مرتبة متأخرة، والعهدة على المخرج وما كتبه على حسابه في انستغرام، بينما حقق بفيلمه القصير تنويهًا ثمينًا. كلمته جاءت تعكس حالة الإحساس بالحصار وتضييق الخناق التي يعيشها بعض صُنّاع السينما الذي يصارعون تيار صناعة السينما وأمواجه العالية على صعيد الإنتاج، فيما يعلو طموحهم لصناعة أفلام في مواجهة محدودية الفرص والتمويل، والانصياع إلى الصناعة بما هو متاح من إمكانيات.

 ولأن صناعة التحريك مكلفة جدًا، لذلك يتفهم الجميع شعور كثير ممن ينتمون لهذا الحقل، وخاصة من الطموحين لصناعة أفلامهم، لا أن يكونوا ضمن فريق عمل فيلم لغيرهم، ويكفي بوراني أنه تمكن بمحاولات معدودة إلى الوصول إلى هذه المكانة، ولعل المقبل أجمل على خلاف بطله الذي حاول أن يتحرك، ولكن دون جدوى، فقد تبين أن نقل الأقدام أصعب مما يظن، فهل يصدق في انتظار غودو؟

«لعبة الخلق»
«لعبة الخلق» 2024

يبدو أن لا شمس تلوح في الأفق، فالتماثيل المشوهة العديدة تغلب هذا الواحد الجميل الذي يقف في المنتصف. كيف سيؤثر فيه الوجود بين كل هؤلاء المشوهين؟ لا شك أن مجاورتهم تُعدي، حتى وإن تفاءلنا بأنه يمكن للصحيح أن يشفي من حوله، لما لا؟ أو ربما الفرار من بينهم هو الوسيلة الوحيدة للخروج من المأزق، والقفز من عنق الزجاجة، ولعل حبكة الفيلم التي بدت ممهدة لهذا الحل، تشي بخلاص مرتقب، ومنحنى الدقائق المعدودة يعد بخلاص لا مناص عنه، ولكن العقدة تشد وثاقها، وتقيّد قدميه دون حراك، ولا بأس فلا بد من زيادة في التعقيد؛ ليكون الخلاص أكثر قبولا لدى المشاهد، فكلما زاد التعقيد؛ تلقى المشاهد الحل بكل حماس، وينفع هذا الأمر في ارتفاع منسوب الدهشة لديه، وهذا ما حاوله المخرج صحبة شريكه في العمل جيانماركو فالانتينو. الحل يأتي من مزية هذا الفن، فن التحريك، أنه لا حدود للخيال فيه على الإطلاق، فكل ما بين يديك من صلصال، تقدر أن تصنع به ما تشاء، ولذلك تفننا معًا في تشويه بقية التماثيل، وبالغا في ذلك لترهيب هذا البطل المرتقب، وتعليق المشاهد لمشاركتهما فك قيده.

يبدو أن القيد يزداد قسوة، والنهاية تأتي لتكسر أفق الانتظار، وتخالف توقعات المشاهد، وتقع موطن التقدير، حين يصير البطل رقمًا ضمن الخيبات المرتقبة، ويقف الصانع في مواجهة تعدد نماذج فشله، وتظل الأرقام لا قيمة لها، وبريق الأمل في فوز مرتقب مثل الفوز الذي حازه هذا الفيلم، وان يخلق الصانع تمثالًا يخالف خيبات التماثيل الخائبة. 

اقرأ أيضا: «المدينة الكبيرة»… مرآة ساتياجيت راي للتحولات الكبرى

شارك هذا المنشور