انشغل سكان «لكناو» في عهد «واجد علي شاه»، بالاحتفالات الفخمة، وتعاطي الأفيون، ومعارك السمان والديوك، وألعاب مثل الشطرنج وتشوبار التي تشبه المونوبولي. نظم الشعراء قصائد المجون، ابتكر الحرفيون تصاميم جديدة للدانتيل والمطرزات، انتشرت مستحضرات التجميل والعطور بكثرة. كان الشعب يناقش استراتيجيات المناورات والمعارك الكبرى للشطرنج. كانت الجيوش تُهزم وتنتصر على رقعة الشطرنج فقط. وبينما كان الجميع غارق في هذه الأنشطة، كانت بريطانيا تستعد لضم المدينة لحكمها.
في هذه الأجواء تدور أحداث فيلم «لاعبو الشطرنج Shatranj Ke Khilari» للمخرج ساتياجيت راي، الملقب بـ«مايسترو السينما الهندية» عام 1977، ليصبح أكثر أفلامه السياسية عمقًا. وتدور أحداث الفيلم أواخر القرن التاسع عشر في مدينة لكناو الهندية، عشية ضمّها إلى الإمبراطورية البريطانية. مما جعل من العمل تأملًا دقيقًا في التدهور الثقافي والخضوع الاستعماري.
يدور الفيلم ظاهريًا حول لعبة الشطرنج، لكن «راي» ينسج من خلالها سردًا يمزج بين الثقافي والسياسي، ويصور مجتمعًا على شفا الانهيار.
صدام الثقافات على رقعة الشطرنج
لدقائق تزيد على الخمس، نتابع رقعة شطرنج يجلس على طرفيها لاعبان، هما اثنان من نبلاء لكناو، ميرزا سجاد علي (سنجيف كومار) ومير روشن علي (سعيد جفري)، اللذان استحوذت لعبة الشطرنج على حياتهما بالكامل. يجعلهما هذا الهوس اليومي غافلين تمامًا عن الاضطرابات السياسية والمنزلية التي تحيط بهما. فبينما تقضي زوجة ميرزا وقتها في غرفتها، غاضبة ومهمَلة، يستغل مير هذا التشتت ليخون صديقه مع زوجته. تمتد هذه الغفلة لتشمل العالم الأكبر؛ إذ يتجاهل الجميع الشائعات حول استعداد قوات شركة الهند الشرقية لغزو ملاذهم والاستيلاء على ملكهم، واجد علي شاه.
ترسم العلاقة بين الصديقان/ الغريمان ميرزا ومير وكذلك تفاعلاتهما مع زوجاتهما، صورة حية للتدهور الأخلاقي والعاطفي داخل طبقة النبلاء في لكناو. تمثل زوجة ميرزا – التي كانت محبطة بسبب هوس زوجها بالشطرنج- المسؤوليات المُتجَاهَلة والعلاقات المُهملة التي ترمز إلى الانحطاط الاجتماعي الأوسع. وفي الوقت نفسه، تؤكد علاقة مير بزوجة صديقه – والتي تجرى في خفاء دون علم صديقه الغافل- على انهيار الأخلاق بين أفراد هذه الطبقة.
يستخدم «راي» طوال الفيلم لقطات قريبة للعبة الشطرنج، مركّزًا على أيدي اللاعبين وهما يحركان قطعهما. تحجب الكاميرا، التي غالبًا ما تكون موجهة لالتقاط الرقعة من الجانب بدلًا من الأعلى، فهم المُشاهِد لتقدم اللعبة. يعزز هذا الاختيار، إلى جانب موسيقى راي الخاصة، من انفصال الشخصيات عن الواقع. يتدخل الراوي بشكل دوري، مضيفًا طبقات من السخرية والعمق للقصة، مما يعزز من جو «الحكاية الشرقية» الذي يناسب روح الفيلم.
يصبح الفرق بين الشطرنج الهندي التقليدي والشطرنج الإنجليزي استعارةً للصراع الثقافي في قلب الفيلم. في الشطرنج الإنجليزي يمكن للجندي أن يتحرك مربعين في حركته الأولى، ويمكن ترقيته إلى قطعة أقوى عند وصوله إلى نهاية الرقعة، وهو تغيير يرفضه مير قائلًا: «لماذا علينا أن نتعجل؟»، تعكس هذه الجملة الصراع الأوسع بين حضارة استعمارية تسعى لتحقيق السيطرة بسرعة وأخرى تفضل الإيقاع البطيء والتأني. يستخدم «راي» هذه الاستعارة لتسليط الضوء على العواقب المأساوية لرفض النبلاء التكيف مع التغيرات التي تطرأ على العالم من حولهم.
ما بين الشطرنج والسياسة
لا تكمن مأساة «لاعبو الشطرنج» فقط في سقوط المُلك، بل في إدراك أن هذا السقوط كان حتميًا. يعكس رفض النبلاء مواجهة الواقع فشلهم في فهم التغيرات السياسية المتسارعة. حبهم للشطرنج وهوسهم بتعقيداته يصبح رمزًا لعجزهم عن مواجهة التحديات الحقيقية خارج نطاق ملذاتهم الفورية. الشطرنج هنا ليس مجرد لعبة، بل استعارة لعالمٍ يتداعى دون أن يدرك أهله خطورة ما يحيط بهم.
ركز «راي» على الصراع الثقافي بدلًا من تقديم سرد تقليدي للخير مقابل الشر، حيث قدم الملك واجد علي شاه كشخصية معقدة تجمع بين القوة والضعف. وفي الوقت ذاته، لم يصور الجنرال «جيمس أوترام»، الضابط البريطاني المكلف بضم لكناو، كشرير نمطي. بل أضاف أبعادًا إنسانية لشخصيته، مسلطًا الضوء على صراعاته الداخلية وهو ينفذ أوامر عليا تثير فيه إحباطات وتناقضات أخلاقية. بهذا، يتجسد أوترام كشخصية تتنقل بين ضغوط السلطة وتبعات القرارات الاستعمارية.
ينعكس هذا الصراع بين الشطرنج والسياسة في البنية البصرية للفيلم، حيث قام «راي» بإعادة بناء الداخل الهندي الفخم في قصور النبلاء، مستخدمًا تلميحات بصرية مستوحاة من المنمنمات المغولية – اللوحات الصغيرة التفصيلية التي كانت ترسم لتوثيق الحياة الملكية. يبرز من خلال هذه العناصر، التناقض الحاد بين العظمة الموشكة على الزوال للنبلاء والصلابة التي تمثلها السلطة البريطانية. يتعزز هذا التباين باستخدام راي الدقيق للإضاءة والألوان، حيث تنتقل المشاهد بين الألوان الدافئة والذهبية داخل القصور والضوء البارد في مقرات البريطانيين.
كما أضاف راي عناصر موسيقية ورقصات تقليدية إلى الفيلم، خاصة في مشاهد بلاط لكناو، مما أثرى السياق الثقافي للقصة. لم تكن هذه العناصر مجرد زينة بصرية، بل سلطت الضوء على ارتباط النبلاء العميق بتراثهم، حتى مع تزايد انهيار عالمهم في مواجهة الاستعمار. مشهد الرقص، على سبيل المثال، يمثل تذكيرًا بالغنى الثقافي الذي يتلاشى تدريجيًا أمام ضغوط القوى الاستعمارية.
الشطرنج في عيون السينما والأدب
شهدت لعبة الشطرنج في السنوات الأخيرة، انتعاشًا غير مسبوق بفضل النجاح الكبير الذي حققه مسلسل «مناورة الملكة The queen gambit»، والذي عُرض لأول مرة على منصة «نتفليكس» في أكتوبر 2020. تدور أحداث المسلسل حول بيث هارمون، الطفلة اليتيمة التي تكتشف موهبتها الفذة في الشطرنج، وتخوض رحلة صعبة نحو القمة في عالم يهيمن عليه الرجال. المسلسل لا يعرض الشطرنج كلعبة فقط، بل كمعركة نفسية واستراتيجية تتطلب مستوى عالٍ من الذكاء والتخطيط. بفضل هذا النجاح، ذكرت تقارير أن مبيعات الكتب المتعلقة بالشطرنج قد ارتفعت بنسبة 603% على أمازون في الأسابيع الثلاثة التي تلت عرض المسلسل، مما يعكس تأثيرًا كبيرًا على تجديد الاهتمام باللعبة.
لم يكن «راي» أول أو آخر من تناول الشطرنج في السينما. من منا ينسى تحفة إنغمار بيرغمان «الختم السابع The seventh seal»، حيث يواجه الفارس العائد من الحروب الصليبية الموت ويبدأ في لعب مباراة شطرنج معه. في هذا السياق، يمثل الشطرنج الصراع بين الحياة والموت، والإيمان والشك، مما يجعل اللعبة استعارة قوية للصراع الوجودي الذي يمر به البطل.
في المقابل، يأتي فيلم «الفهد» The leopard للمخرج لوتشينو فيسكونتي، حيث يستخدم مشهد الشطرنج كاستعارة للصراع بين القديم والجديد. يلعب الأمير الشطرنج مع ابن أخيه، لترمز اللعبة إلى التغيرات السياسية والاجتماعية في إيطاليا خلال فترة توحيدها، حيث تتراجع الأرستقراطية لصالح البرجوازية الصاعدة، مما يعكس التحولات التاريخية التي واجهها النبلاء.
يروي «الأبشيهي» في كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف» إن ملوك الهند كانوا حكماء لا يرون بالقتال وإراقة الدماء، فوضعوا الشطرنج، فكان إذا تنازع ملكان في مملكة، اصطف الجيشان، وتقابل الفريقان، وتقدم الملكان من غير قتال وسفك دماء.
أجمل به من حلٍّ لمصائب هذا الزمان!
اقرأ أيضا: «المدينة الكبيرة»… مرآة ساتياجيت راي للتحولات الكبرى