فاصلة

مراجعات

«لأجل آدم»… حكاية مختلفة عن الأمومة

Reading Time: 4 minutes

من ضمن ثلاث أفلام اختيرت لافتتاح عروض مهرجان كان، أحدهم لافتتاح المسابقة الرسمية وثان لافتتاح قسم “نظرة ما” وثالث لافتتاح “أسبوع النقاد”، جاء فيلم لورا فونديل “لأجل آدم Adam’s sake” الذي افتتح فعاليات أسبوع النقاد أكثر تلك الأفلام تاثيرًا واختلافًا. 

دفعني اسم المخرجة البلجيكية لورا فونديل لتجاهل فيلم في المسابقة الرسمية كان يُرض في نفس وقت فيلمها، فذهبت لمشاهدة “لأجل آدم” وهو فيلمها الروائي الطويل الثاني. ففيلمها الأول “ملعب” لا يزال في مخيلتي كواحد من أفضل الأفلام التي صُنعت في السنوات الأخيرة. وكما في فيلمها الأول “ملعب Playground” الذي نتابع من خلاله الاحداث في مدرسة من وجهة نظر طفل، يدور فيلمها الثاني في مكان متعلق بالأطفال أيضًا. هذه المرة، نحن في عنبر مستشفى خاص برعاية الأطفال الذين يخضعون لإشراف الرعاية الاجتماعية.

عقب حُكم قضائي، يُنقل آدم البالغ من العمر أربع سنوات إلى المستشفى لسوء التغذية. نراه هزيلًا، يتطلب إطعامه إدخال أنبوب من خلال أنفه، ما يتسبب في كثير من الألم له، إلى جانبه نرى امرأتين: أمه ريبيكا، التي ترفض ترك المستشفى رغم تعليمات الرعاية الاجتماعية التي تخصص وقتًا محدودًا للزيارة، ولوسي الممرضة التي تسمح للأم بتجاوز القواعد لكنها لا توافق على تصرفاتها رغم أنها تحاول مساعدتها. 

تذكرنا ريبيكا بالأم في “نحتاج للحديث عن كيفن We need to talk about Keven” للين رامزي، فهي أم مخلصة محبة، لكنها مُضللة بهذا الحب، ترفض إطعام ابنها أي طعام حقيقي، وتمنحه أكلًا يتسبب في المزيد من سوء التغذية. هذا نوع من الحب المسموم بعاطفة قوية، حب أمومي عنيف يهدد، للأسف، صحة ابنها. 

"لأجل آدم".. حكاية مختلفة عن الأمومة
Adam’s Sake (2025)

ابنها آدم، على الناحية الأخرى، ورغم تعبه الشديد، مخلص لها تمامًا، ويسمع كلامها في جميع الأحوال، يترك طعام المستشفى الضروري لإنقاذه من الموت ليأكل الأكل الذي تحضره ريبيكا معها. بين الأم والابن، تظهر لوسي الممرضة، الأم أيضًا، والمنهكة جراء اللهاث وراء حالات الأطفال المرضية المختلفة. تفضح عيناها الكثير عن شخصيتها، وجهها يبدو صارمًا بينما تحمل داخلها تعاطفًا كبيرًا تجاه ريبيكا وطفلها، وتحاول بدبلوماسية شديدة أن تقف في صف الاثنين، دون خرق قواعد الرعاية الاجتماعية وأوامر مديرها أيضًا. 

هذا الموقف الذي تقفه لوسي، يوحي بأنها شخصية متعاطفة مهتمة بعملها بجدية، إذ أنها يمكن ببساطة أن تفعل مثلما يفعل باقي زملائها من عزل لإحساسهم الشخصي، لكنها لا تفعل ذلك، وهذا ربما ما يضعها هي في نوع ما من مأزق، ربما تشعر لوسي بذنب شديد تجاه شيء اقترفته هي كأم وتحاول إصلاحه أيضًا، نراها تتحدث مع ابنتها خلال اليوم، لكن دون ذكر تفاصيل واضحة. 

هذا النوع من الغموض حول حياة لوسي وابنتها، وحول ما هو نوع الطعام الذي تمنحه رييبيكا لابنها، يجعلنا نمنح تركيزنا لتفاصيل المكان والزمان والمشاعر المتولدة من تلك الأحداث المتلاحقة في وقت قصير، دون التركيز على الحكم على الشخصيات. تسعى المخرجة لتوريطنا في تلك الحكاية وفي ذلك المكان، الذي هو عنصر مهم في فيلمها السابق “ملعب” حيث تدور الأحداث في مدرسة، أو هنا في فيلمها الأحدث حيث تدور الأحداث كلها في عنبر رعاية للأطفال. إضافة إلى ذلك، يمكن رؤية اهتمامها بشيئين أساسيين في كلا الفيلمين: الطفولة وديناميكيات الأماكن التي يدخلها الأطفال، فتشكل وعيهم تجاه العالم. 

"لأجل آدم".. حكاية مختلفة عن الأمومة
Adam’s Sake (2025)

على مدار اليوم الذي نقضيه في المستشفى مع لوسي وريبيكا وآدم، ندخل إلى عالم عنابر الرعاية الاجتماعية للأطفال، ونلاحظ بعضًا من أخطاء في النظام بأسره، نشاهد وجهة نظر واضحة ربما تذكر بأعمال الأخوين داردين، لكننا في نفس الوقت لا نرى انجرافًا لتلك النقطة، قدر ما يخلص الفيلم لدراما شخصياته.

على مدار مدة الفيلم البالغة 75 دقيقة، وهي مدة نادرة حاليًا في الأفلام الفنية، نشعر بالإيقاع الحبيس للشخصيات الثلاثة وما يوده كل واحد منهم، ريبيكا لا تود أن تترك ابنها، آدم لا يود ترك أمه لكنه لا يرغب بالموت أيضًا، ولوسي واقعة بين نظام بيروقراطي غير متعاطف وبين الخطر الآت من حب ريبيكا المضلل لابنها. 

على المستوى البصري، تحتفظ فونديل من فيلمها الأول بلقطاتها التي تتبع فيها الأبطال وتحبسهم في كادرات لا تمنحهم أي مساحة، كما الوضع الذي يعيشونه، كما تستخدم العناصر البصرية الآتية من عوالم المستشفيات بأضوائها البيضاء وطغيان اللون الأزرق على سرائرها. ما يضيف إلى إحساسنا بالشخصيات هو شريط الصوت النابع أيضًا من عالم الفيلم – المستشفى – حيث نستمع دائمًا إلى صوت الماكينات الطبية المستمر الموتر، والمشابه أحيانا لإيقاع الفيلم. كما تختار فونديل ممثلاتها بعناية، سواء آنا ماريا فارتولومي (ريبيكا)، أو ليا دروكر في دور لوسي. كما تختار طفلاً – لدور آدم- ذا شخصية واضحة، يستطيع التمثيل كممثل محترف دون الاحتياج حتى لاستخدام الحوار على الرغم من عمره الصغير. 

"لأجل آدم".. حكاية مختلفة عن الأمومة
Adam’s Sake (2025)

هكذا نجد أنفسنا عالقين مثل شخصيات الفيلم الثلاثة، في لحظات درامية حساسة، نشعر فيها بقشعريرة تلامس مشاعرنا بشدة، وتجعلنا نغرق ونتماهى تمامًا مع آدم وريبيكا ولوسي. 

ومع مرور الوقت وتصاعد الأحداث، نخرج مع نهاية الفيلم من قاعة مظلمة، بأحاسيس متضاربة حول كل منهم، لكننا بالتأكيد يمكننا أن نرى مدى إبداعية فونديل في تصوير تلك العوالم، التي تبقى معنا حتى مع مغادرتنا للقاعة لأيام وربما لسنوات. 

اقرأ أيضا: «القيامة» أو عندما تكون السينما جسدًا للأحلام

شارك هذا المنشور

أضف تعليق