في سينما رادو جود، لا يمكن فصل الصورة عن خطابها، ولا للحدث أن يكون عابرًا بلا امتدادات فكرية وحضارية معقدة. هو مخرج يضع مجهرًا فوق التشققات الاجتماعية والسياسية في أوروبا، مستخرجًا منها تناقضات تُثير الجدل، لكنها في الوقت ذاته تُعيد ترتيب إدراكنا للعالم. بأسلوب يجمع بين الواقعية الاجتماعية، والسخرية اللاذعة، والتأمل الوجودي في مصير الفرد داخل منظومة اقتصادية قاسية، يصوغ جود لغة سينمائية حادة ونقدية ومباشرة. وفيلم «Kontinental ’25 كونتيننتال ٢٥» ليس استثناءً من هذه القاعدة، بل تأكيد آخر على قدرة جود على تحويل العبثية اليومية إلى معضلة فلسفية، والعادي إلى ميتافيزيقي، والمباشر إلى ماكرٍ يعبث بإدراكنا للواقع.
ولا يمكننا الحديث عن «كونتيننتال ٢٥» دون التوقف عند المرجعية الصريحة التي أعلنها رادو جود نفسه: أوروبا ٥١ لروبرتو روسيليني. وهو استلهام يتجلى بوضوح في المسار السردي لـ«كونتيننتال ٢٥» حتى في الاسم ذاته (أوروبا عام ١٩٥١) و(القارة عام ٢٠٢٥).
حيث تعيش بطلة الفيلم أورشولا، موظفة تنفيذ أحكام، أزمة أخلاقية بعد أن يقودها عملها إلى طرد رجل مشرد من مأواه المؤقت، لينتهي الأمر بانتحاره. هذا الحدث الجوهري يدفع أورشولا إلى رحلة شخصية تتنقل فيها بين محطات مختلفة، زيارة لصديق، حوار مع أمها التي تُمثل صوت القومية المحافظة، لقاء مع كاهن أرثوذكسي، ثم لقاء عابر مع طالبها السابق، وكل ذلك في محاولة يائسة لفهم تداعيات مسؤوليتها الأخلاقية.

فإذا كان فيلم روسيليني قد صوّر تحوّل بطلته، إنغريد بيرغمان من امرأة برجوازية إلى ناشطة اجتماعية مدفوعة بعقدة الذنب، فإن رادو جود يأخذ هذا المسار إلى اتجاه أكثر عبثية، وأكثر تجذّرًا في الواقع الأوروبي المعاصر، حيث يصبح الشعور بالذنب والعجز جزءًا من النسيج الاجتماعي نفسه، وليس مجرد لحظة تحول فردي.
ومثل أعماله السابقة، لا يقدم رادو جود حبكة متماسكة تقليدية، بل يعتمد على بناء سردي يتسم بالتشظي والتناقض. الفيلم مليء بالمشاهد التي تبدو كأنها خرجت من سياقات متنافرة: مشاهد لأطلال رومانية، لقطات أرشيفية لهبوط هيندنبورغ، فيديو طائرات مسيّرة تهاجم جندي روسي، مشهد في حديقة ديناصورات. هذه الفوضى ليست اعتباطية، بل تشكّل جزءًا من أسلوب رادو جود في تأريخ الحاضر بطريقة تتحدى التتابع المنطقي.

يبدأ الفيلم بمشاهد توثّق حياة المشرد إيون، وهو يجمع الزجاجات الفارغة في حديقة ديناصورات، مشهد يبدو كأنه استدعاء حديث لشخصية ميشيل سيمون في بودو أنقذ من الغرق ١٩٣٢ لجان رينوار. يتقاطع مصيره لاحقًا مع أورشولا، التي تؤدي عملها الإداري ببرود ممزوج بإحساس غامض بالشفقة. لكن بعد انتحاره، تتحول رحلتها إلى ارتطام متكرر بجدران المجتمع، حيث تدرك تدريجيًا أنها ليست سوى ترس صغير في آلة عملاقة.
ما يُميز «كونتيننتال ٢٥» ليس فقط بنيته السردية المتشظية، بل أيضًا كيفية استخدام رادو جود للحوار كأداة تشريحية، حيث تتحول الكلمات إلى معركة متواصلة من التناقضات. أحد أبرز المشاهد هو حوار أورشولا مع الكاهن الأرثوذكسي، الذي يحيل المسألة الأخلاقية إلى بُعد ديني جاف، يفرغ الشعور بالذنب من مضمونه الحقيقي، ليعيد إنتاجه داخل قوالب عقائدية تبريرية. الحوار هنا ليس مجرد تبادل للمواقف، بل اختبار لحدود اللغة نفسها، للمشقة التي تحملها الكلمات للوصول للخلاص. المشهد يتكرر مع صديقتها، التي تمثل نموذج الليبرالية الحديثة التي تُدين الظلم، لكن من مسافة آمنة، دون أن تتورط في أي فعل حقيقي. والتي تقول ببرود: “أنا أشعر بالشفقة على المشردين، لكني لا أتحمل رائحتهم.” هذه الجملة وحدها تلخص جوهر التناقض الأخلاقي لليبرالية الأوروبية.

يواصل رادو جود هنا تكريس أسلوبه البصري المتقشف، إذ صُوّر الفيلم بهاتف آيفون ١٥، مما يضفي عليه طابعًا واقعيًا خشنًا ينسجم مع طبيعته. معتمدًا الفيلم كذلك على لقطات طويلة وثابتة، تخلق إحساسًا بالجمود والاختناق، وكأن الشخصيات محاصرة داخل أبعاد مغلقة لا مهرب منها، تمامًا كما هو حالها في واقعها الاجتماعي.
ورغم أن الفيلم يحمل بصمات جود الأسلوبية المعهودة، إلا أن «كونتيننتال ٢٥» يبدو أكثر بساطة، وربما أشد كآبة وبمزاج عام يوحي بشيء أكثر تأملاً وأقل تهكماً، فلا نجد هنا صدمات بصرية، ولا انفلاتات صاخبة في المونتاج كما عهدنا في أفلامه السابقة، بل إحساسًا ثقيلًا بالضياع واللاجدوى، يوحي بنوع من الإنهاك الفكري، وكأن جود نفسه أصبح أقل يقينًا بقدرة السينما على تغيير الواقع في عالم فقد كل معايير اليقين.
قد لا يكون هذا الفيلم الأكثر صخبًا في مسيرة جود، لكنه بلا شك واحد من أكثر أعماله عمقًا. كتأمل سينمائي في مصير الفرد داخل نظام لا يعترف إلا بالأرقام، ومرآة لعالم يتهاوى تحت وطأة اللامبالاة الجماعية: عن التناقضات، عن الأسئلة التي لا إجابة لها، وشهادة سينمائية على أوروبا التي باتت تعيش على أنقاض عهدها القديم.
اقرأ أيضا: «يونان».. قصيدة عن التيه الوجودي