فاصلة

مراجعات

«كل ما نتخيله كضوء»… عن الصداقة والحب والمرأة

Reading Time: 3 minutes

كاميرا المخرجة الهندية بايال كاباديا تطوف ليلًا شوارع مومباي التي تسحر سكانها وتلتهمهم غالبًا. نرى باعة جوّالة وأناسًا في حركة، متعبين منهكين، نسمع أصواتهم تتحدث عن الأسباب التي تجعل الكثير من الناس في الهند يبحثون عن حظهم في المدن… تنهدات وآمال للعثور على لقمة العيش هنا. «يجب أن تؤمن بالوهم وإلا ستصاب بالجنون» يحذّر أحد هذه الأصوات التي سلكت هذا المسار.

 في قطار المدينة، نسمع أفكار الركاب، هنا نلتقي للمرة الأولى برابها (كاني كسروتي) الممرضة التي تتشارك المنزل مع زميلتها في العمل آنو (ديفيا برابها). برابها هي الأكبر سنًا والأكثر هدوءًا ومسؤولية، متزوجة بطريقة مدبرة وفقًا للتقاليد، أو بالأحرى، كانت لتكون ذلك لو لم يغادر زوجها إلى ألمانيا فور الزواج. من ناحية أخرى، تستمع آنو إلى قلبها، وتغازل حبيبها المسلم، متجاهلةً التوقعات الاجتماعية والتقاليد والنظرات الرافضة. صديقتهما الثالثة ممرضة أرملة تدعى بارفاتي (تشايا كادام). منزلها على وشك الهدم لإفساح المجال لمجمع شقق فاخر، لم يترك زوجها أوراقًا تثبت أن الشقة التي تعيش فيها هي ملكها بالفعل. نعايش أيامهن كأنهن مستقلات، لكن ليست هذه هي الحال، حتى تهرب النساء الثلاث من خيبة أملهن وعدم اليقين إلى الريف، إلى شاطئ البحر، في رحلة يجدن فيها العزاء والإجابات والاستقلال والانتماء المؤقت.

كل ما نتخيله كضوء
All We Imagine as Light (2024)

«كل ما نتخيّله كضوء» (All We Imagine as Light – الجائزة الكبرى في مهرجان كان)، هو صورة للوحدة والرغبة والمعاناة الأنثوية التي تنضح بالتعاطف. بطلات الفيلم الثلاث متحدات بسبب عجزهن ورغباتهن. بينما تبني كاباديا شخصياتهن من خلال الإيماءات، وبنفس الدقة تنظر إلى المشاكل الاجتماعية مثل الزواج المدبر والتوترات العرقية وكراهية الإسلام والذكورية والتمدد الحضري، تصوّر المد والجزر المستمر للمدينة بدون إخفاء بؤسها لكن من دون تسليط الضوء عليه… تغرقنا في حزن مغرٍ. في النهاية، تفسح الحرارة والفوضى والغضب وبحار الناس في الشوارع وهدير القطارات والدخان، المجال لشيء أكثر غموضًا وجاذبية. وعندها يتمكن الفيلم من تخفيف الحزن الهائل الذي يخترقه.

كل ما نتخيله كضوء
All We Imagine as Light (2024)

برقة وصورة واقعية للمدينة وديناميكياتها اليومية، تقدم كاباديا حياة النساء، وكيف يتم بناء الصداقات بالصمت والاعترافات. «كل ما نتخيله كضوء» صورة عن الصداقة والحب والمرأة، ميلودراما أنثوية حساسة. قصة كاباديا ذات اللون الأزرق خالية من المبالغة، وحتى الواقعية السحرية التي تظهر في النهاية تتناسب بشكل خفي مع العمل الذي يستحضر أكثر من مرة ميزات وثائقية. لا تسعى المخرجة إلى التطرف، بل تروي ببساطة وبنبرة لطيفة وحذر شديد مصائر نسائها. يتناسب الفيلم مع ألوانه الهادئة وإضاءته الخافتة والإيماءات الصغيرة، ويتناسب أيضًا مع اليوتوبيا التي تتضح في النهاية.

كل ما نتخيله كضوء
All We Imagine as Light (2024)

 كاباديا مخرجة تتمتع بقدرة هائلة على المشي بين الاحلام والواقع، بينما تقدم ببراعة وبيد خفية نقدًا لمجتمعها، وتضع دائمًا عينيها على تطور الشخصيات وأفعالها الصغيرة. «كل ما نتخيله كضوء»، صورة جملة لنساء يعشن في مدينة هائلة ومكتظة، وفي الوقت نفسه يحافظ على الحساسية المطلقة لمخرجته.

 يجمع الفيلم كل هذا، في صور دقيقة وفوق كل شيء ليلية تعزّز الانطباع بأنّ هؤلاء النساء بعيدات عن واقع النهار القاسي، كأنهن من السائرات أثناء النوم، كالأشباح التي تبحث عن حياتها.

اقرأ أيضا: «نوسفيراتو» روبرت إيغرز… تحيّة عظيمة إلى التعبيرية الألمانية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق