لا تعطينا تجارب المشاهدة دائمًا فيلمًا تسجيليًّا بروعة وجمال «كذب أبيض» للمخرجة المغربية أسماء المدير، فمثل هذا الفيلم يحتاج -فضلًا عن الشجاعة- إلى المعرفة العميقة بمفهوم الصورة والضوء.
الحكاية التي ترويها أسماء بصوتها عبر تقنية الـتعليق الصوتي Voice Over، تدفع المشاهد لأن يشترك معها في الإحساس بمعاناتها. لذلك، تميز رؤيتها الفنية فيلمها اللافت. وليس هذا بمستغرب إذا علمنا أن مخرجة الفيلم اشتغلت عليه أكثر من عشر سنوات.
مَن يشاهد «كذب أبيض» سيتوصل إلى قناعة أكيدة بأن مثل هذا الإنتاج الهائل لا يمكن أن يكون وليد لحظة، أو فكرة سانحة أحسنت المخرجة استثمارها. بل الأمر أعقد من ذلك؛ إذ أن تجربة المشاهدة تجعل أي مهتم بالفنون يعيد حساباته مع ما كان يعرفه من قبل، وأن ينظر إلى إمكانية تفجير الحكايات الصغيرة، وتحويلها إلى مخلوقات طينية متناهية في الصِّغر، وأماكن ما هي في الحقيقة إلا مكعبات خشبية، أعادت المخرجة بناءها لتتناسب مع حكايتها المتشعبة، المليئة بالأفراح والأتراح، والتي لا تخلو من أحداث سياسية كبرى، وتفاصيل اجتماعية مضنية، ونظرة شِعرية شديدة الهشاشة تجاه الذات التي تواجه تاريخها الشخصي والعائلي على حد سواء.
إن مهمة اختصار الرواية التي يحكيها الفيلم مهمة صعبة، إن لم تكن مستحيلة، ولعل ذلك شأن الأعمال العظيمة؛ فالرواية مُفتتة عبر السرد، وهي في الوقت ذاته مركبة من عدة طبقات، متفاوتة من ناحية الرواية الذاتية والرواية العائلية والرواية الوطنية. فالساردة، وهي مخرجة الفيلم وكاتبته ومنتجته الفنية، لديها أزمتها الشخصية مع غياب صورتها وهي صغيرة، وسيكشف لنا السرد حجم ألمها حين تختار لها الأم صورة فتاة أخرى لتُسكِت فيها الإحساس الشديد بالجوع إلى ماضيها قبل أن تبلغ الثالثة عشرة من عمرها، ومن هذه الرواية أُخِذ عنوان الفيلم (كذب أبيض)، لعل هذا ما يجعلنا نحيل إلى فكرة جوهرية في روح الفيلم، الفكرة التي تجعلنا نصنفه (فيلم من أفلام السيرة التسجيلية)، فإحالة العنوان للشعور الشخصي لدى المخرجة هو عتبة الدخول الصحيحة للفيلم.
على أن الرواية تتشعب ليدخل إليها جميع أفراد العائلة، ومن ثم المجتمع المحلي، ومن ثم رواية الوطن عبر وجع مُضْنٍ من أوجاعه في «سنوات الرصاص» وما جرى فيها انطلاقًا من «ثورة الخبز» التي وقعت أحداثها في 20 يونيو 1981، والتي ذهب ضحيتها 600 إنسان من أفراد الطبقة المنسحقة.
تلك الأحداث نجت منها عائلة المدير بفضل قوة شكيمة الجدة التي حبست أبناءها داخل جدران البيت. هذا الحبس الحقيقي الذي أنقذ العائلة لا نجده ينقذ الذاكرة التي ظلت حبيسة ما حصل بالمعنى المجازي للحبس، والذي سينتهي بأسماء (المخرجة) إلى صناعة فيلمها التسجيلي العظيم «كذب أبيض» الذي ظهر كصرخة المكلوم المكبوتة لتحرير الحكايات الدفينة، ويُثير الأسئلة المسكوت عنها والتي واظبت الجدة على تكميمها، حتى غدا وجودها داخل الحكاية معادلًا موضوعيًّا للسلطة السياسية.
لكننا سنلاحظ أن الصرخة/ الفيلم في النهاية ستُحرر الجميع عبر الحديث والمكاشفة، وعبر إعادة تمثيل الواقع مصغرًا عبر التقنية الفنية المعروفة بالديوراما (Diorama)، التي عادة ما تُستخدم في الأرشيف المتحفي، والتي استثمرها كثير من المخرجين بعد ذلك في إعادة بناء التاريخ القديم الغابر، أو ذلك الذي تعرض للمحو المتعمد، تمامًا كما هو الحال في التاريخ العائلي والوطني الذي نبشت أسماء المدير فيه لخلق عالم يمكنها من إعادة تمثيله.
من السهل على أي مخرج أو روائي مجتهد بناء عالم مُصغَّر من الدُّمى الطينية أو الخشبية (ديوراما) أو بناء (ماكيت) لحي كامل، أو لمدينة أسطورية، لتتحرك داخلها الشخصيات بأريحيَّة، فتكون بمثابة صورة مجازية لوقائع وروايات تمت في مكان مشابه. لكن الصعب هو أن يسهم في بناء هذا العالم المصغر أبطاله الحقيقيون، والد المخرجة ووالدتها وجدتها وبقية أفراد عائلتها وأصدقاؤهم القدامى، والأكثر صعوبة أن يُشارك هؤلاء الأفراد أنفسهم في التمثيل ولعب الأدوار الحقيقية في أثناء تجميع وتركيب وخلق هذا العالم الـمُصغَّر، حينها يصبح تصغير العالم محاولة من قِبَل المخرجة إلى جر الجميع بمَن فيهم شخصيتها الحقيقية إلى داخل هذا العالم، وكأن في الموضوع حيلة متفق عليها، ما وُجِدتْ إلَّا لتحفز الذاكرة الجمعية.
الواضح من خلال أحداث الفيلم أن الجميع كان مستسلمًا لهذه الحيلة الفنية اللطيفة ما عدا الجدة، التي ظلت إلى نهاية الفيلم متعنتةً ورافضة لفكرة الاندماج، حتى أنها مارست على المخرجة نوعًا من الاستفزاز العنيف، بتذكيرها بحقيقة وجوهر ما تعمله في فيلمها -من تقصٍّ وبحث عن الحقائق المدفونة في صدور أبطال الفيلم- بأنها مجرد صحفية، لا أكثر من ذلك. ولو نظرنا إلى الزاوية التي يمكن لامرأة عجوز أن تنظر منها- خاصة وأنها متسلطة بطبعها، وتشبه السلطة في كل شيء، حتى في ولائها العظيم للملك، الذي تُقبِّل صورته وتحتفظ بها كصورة وحيدة غير محرمة، بينما باقي الصور حرام- فإن الموضوع فيه نظر، ويمكن قبوله بكونه وعيًا مضاعفًا لا جهل امرأة طاعنة في السن، حتى أن جدل إن كانت مخرجة الفيلم سينمائية أم صحفية هو جدل وجيه من الناحية الفلسفية، فكلاهما يعمل من أجل الحقيقة، ويختلفان في الأدوات والآليات.
لكن طبيعة الفيلم الفنية واستثمارها لأدوات السينما من ضوء وصوت ووجهة نظر الكاميرا، كل ذلك يبعد أسماء المدير من الحيز الصحافي الذي تعنيه الجدة، ويدخلها إلى رحابة عالم الإخراج الفني، وهذا الجدل محسوم بطبيعة الحال لصالح المخرجة، التي دافعت عن كونها فنانة في وجه سلطة الجدة، وبنبرة ليس فيها أدنى رغبة في التخلي: «أنا مخرجة».
هذا الدفاع بطبيعة الحال دفاع وجودي، نلمح فيه تنازل الفنانة عن أي وجود غير وجودها الفني، وليس في مواجهة وجودها الآخر كصحفية، وبطبيعة الحال ليس في ذلك تقليل من القيمة الصحفية، بقدر ما فيه من الإصرار على الفن.
وما ذكرناه آنفًا عن دفاع أسماء المدير عن وجودها في العالم كمخرجة -عالم الفيلم والعالم الحقيقي على حد سواء- له ما يبرره فنيًّا من داخل الفيلم. فبخلاف صرختها في وجه الجدة بمقولة: «أنا مخرجة»، هناك مبررات فنية عظيمة قلما نجد لها مثيلًا في العالم اليوم، حتى لدى المخرج الكمبودي ريثي بان، صاحب فيلم «الصورة المفقودة The Missing Picture» والذي استخدم التقنية الفنية نفْسها في تصغير عالم بلا أرشيف من خلال الـ(Diorama)، ليبدع في تمثيل مأساة عائلته التي قضى جميع أفرادها جراء الجوع والإرهاق في معسكرات الخمير الحُمر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي.
أسماء المدير تعاملت مع فيلمها بفنية مخرج حقيقي، يضع في حساباته قيمة الإمتاع، إضافةً طبعًا إلى قيمة جلاء الحقيقة. وفي هذا وعي عميق بالقيمة التأثيرية التي تُعد سبيلًا هامًّا من سبل الاستفادة من الحقيقة. فمن السهل تكذيب الحقائق بشتى الوسائل. لكن من الصعب جدًّا تكذيب الفنون التي تتسرب بنعومة وجمال إلى شِغاف المتلقي، ومن دون الاقتراب حتى من أي شكل من أشكال الإسفاف الفني، بل طرق القيم الفنية العليا. ففي الفيلم بُعد بصري لا يقل عن اشتغال كبار الفنانين المفاهيميين؛ من لعب الصانع بالدمية، ورفض الذات لدميتها لدى (الجدة)، أو حضور الأب الصانع وهو ينظر من أعلى البنايات كإله ينظر إلى كل هذا الخراب في الأسفل، أو لعب المخرجة نفسها لذات الدور، بل ومشاركة المتلقي في لحظة بناء هذا العالم السفلي، كل ذلك جعل هناك إمكانية لقراءة العمل من ناحية البُعد التشكيلي؛ أي بمعزل عن كونه فيلمًا سينمائيًّا، فيمكن بجدية أخذ كل (Fraim) على حدة لصناعة معرض فني تشكيلي وجيه من الناحية الفنية ومتجاوز من ناحية الموضوعية.
إضافة إلى البُعد التشكيلي الحاضر أيضًا في الدُّمى وماكيت الحارة، هناك الجزء الصوتي المبهر للغاية، الذي جاء بعدة مستويات صوتية، بداية من صوت الساردة اللطيف الذي بدا كوشوشة في أُذُن المتلقي، إلى صرامة صوت الجدة التي عبر بحدته عن معنى الرفض في أقسى صوره، إلى أصوات المجاميع الثائرة التي تردد أهازيج الاعتراض على الوضع الذي كان، وأخيرًا بالمختارات من أغنيات «ناس الغيوان» في خلفية بعض الكوادر، كل ذلك جعل للفيلم هوية صوتية فنية خاصة، يمكن التفاعل معها بمعزل عن حكاية الفيلم.
وهناك أيضًا البُعد المسرحي الذي اقتطعت المخرجة له من الفيلم لحظة مهمة، هي لحظة المنتصف؛ تحديدًا لحظة بوح صديق العائلة عبد الله الزويد، الذي قدم قطعة (مونودرامية) قد لا ينجح في تأديتها كبار المسرحيين، سرد من خلالها ما وقع عليه من ظلم وتعنت السلطة العسكرية، تلك القطعة المسرحية التي تأثر بها جميع أفراد العائلة عدا الجدة/ ممثل السلطة، التي شاركت في نهاية العرض بنظراتها المستغرِبة والمشمئِزة. وهذا كله بلا شك من دلالات عظمة فيلم «كذب أبيض»؛ ففيه تلك اللحظة المنشودة، التي تتفجر من خلالها الكتلة الفنية الواحدة إلى عدد هائل من الأجزاء التي يمكن التعاطي معها بمعزل عن بعضها البعض، وهذا لا ينفي في نهاية الأمر القدرة على تجميعها عبر أكثر الأمور عبقرية في فن السينما، ألا وهو المونتاج الذي قامت به المخرجة أسماء المدير نفْسها.
هذا الوعي الشديد بطبيعة الفن السينمائي لدى المخرجة أسماء المدير هو ما دفعنا إلى تتبع مسيرتها الفنية، التي أحالتنا إلى عدد من الأفلام، منها: الرصاصة الأخيرة- ألوان الصمت- جمعة مباركة- الحرب المنسية- في زاوية أمي، والتي حصدت من خلالها عددًا من الجوائز، كان آخرها جائزتَينِ لــ «كذب أبيض»، الأولى كأفضل مخرجة في الدورة 76 من مهرجان كان السينمائي، والجائزة الثانية كأفضل فيلم في مهرجان سيدني، كما رُشح الفيلم نفْسه لجائزة الأوسكار لعام 2024، وقبل كل تلك الجوائز، الجائزة الأثيرة؛ هي قبولها كمخرجة عظيمة من قِبل المتابعين والنقَّاد وعموم مَن شاهد إنتاجها السينمائي.
اقرأ أيضا: أسماء المدير: الوثائقي لا يعني أن أُجلِس شخصيات أفلامي على الكراسي لأطرح عليهم الأسئلة!