فاصلة

مراجعات

“كذب أبيض”… تخليص الحقيقة من ركام الصور والتضليل

Reading Time: 4 minutes

تُجرب المغربية أسماء المدير في فيلمها الوثائقي “كذب أبيض” (2023) أسلوبًا سينمائيًا مركبًا وصعبًا، للتعبير عن حدث تاريخي يتداخل فيه الشخصي والعام، ويسمح بإعادة ترتيب الذاكرة الفردية في سياقها الجمعي، مستخدمة أدوات تعبيرية، وإن ظهرت في السينما العربية من قبل؛ إلا أنها تأتي في “كذب أبيض” على نحو لم يألفه المشاهد ولا صانع السينما في العالم العربي. 

يظهر ذلك في تطويعها للدُمى، ونفث الحياة فيها لتغدو كناية عن شخصيات وكائنات بشرية. فهذا وغن كان مطروقًا من قبل؛ إلا أن المدير في فيلمها الأحدث تروض تلك الدُمى ببراعة وتستخدمها مع العرائس والمجسمات الكارتونية المصغرة لشوارع وأحياء سكنية، لتقدم تركيبة بصرية مفعمة بالجمال وقادرة على الولوج إلى متن الحكاية.


في فيلمها الذي يعيد بناء سنوات صعبة في التاريخ المغربي القريب، لم تذهب أسماء المدير إلى الأرشيف لجمع الوثائق والخامات الخاصة بـ”سنوات الرصاص” التي عاشتها المغرب من الستينيات وحتى نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، وتركت آثارها العميقة على الحياة السياسية والاجتماعية، وسببت جروحًا عميقة لمن شارك فيها؛ بل تقترح المخرجة بدلًا من ذلك تصورًا فنيًا معقدًا، وتُكرس كل ما عندها من موهبة لجعله قابلًا لإعادة كتابة الوقائع التاريخية من خلال اشتغال سينمائي يخلخل المفهوم التقليدي للسرد، ويبقيها هي – بشخصها- حاضرة وسطه، لا بوصفها شاهدًا ـ فهذا ما لا تدعيه ـ بل فردًا مغربيًا باحثًا عن مكانه وسط ذلك الحدث لحظة وقوعه. 

كذب أبيض

عنوان الفيلم “كذب أبيض”، يثير فضولًا ورغبة في البحث عن معناه. هذا ما تريده صانعته، وتريد به استفزاز ذاكرة عائلتها من خلال محاولتها لتحديد دور العائلة ودورها هي شخصيًّا وسط ذلك الحدث.

لترتيب المكان/ الحدث بصريًا، تستعين أسماء بوالدها البناء والحرفي الماهر، القادر على نحت مصغرات تماثيل (دمى) تحركها بكاميرتها وتغير أدوارها بتغيير مكان تثبيتها والتحكم بزوايا عدساتها (تصوير بارع لحاتم نيشي) وتُغْني متونها بأغنيات فرقة “ناس الغيوان” المشحونة بأوجاع تلك الحقبة.

من بين النماذج المصغرة يطل دومًا أناس حقيقيون مثلها؛ أفراد عائلتها وجيرانهم والبيت الذي ولدت وعاشت فيه، والحي والمدرسة التي ألتُقطت لها فيها أول صورة، ولكن ثمة من يدعي: أنها “صورة كاذبة”.

كذب أبيض

 جَدتها سليطة اللسان المتحكمة بالبيت، تكشف كذبة والدتها عليها، بفجاجة تأكيدها أن الحفيدة لا وجود لها في صورة الصف المدرسي، وأن والدتها كذبت عليها يوم أشَّرت على فتاة صغيرة فيها وادعت أنها الابنة/ المخرجة.

تغدو “الكذبة البيضاء” باعثًا لأسئلة شخصية ملتاعة عن سبب غياب صورتها الحقيقة، ولماذا لا تملك واحدة مثلها؟ يتكشف من السرد المتشابكة حوله حيوات وتواريخ؛ أن أسئلتها ما هي إلا ذريعة تتخذها صانعة الوثائقي لبحث أكبر في صور أخرى يحيطها الغموض والرغبة في المحو من الوجود، مثل صورة الصبية “فاطمة” الشاحبة. 

كذب أبيض

 بحثها يوصلها إلى صلة لها بـ”انتفاضة الكوميرا” التي انطلقت في شوارع المغرب يوم 20 من يونيو/حزيران 1981، وبعدها غاب ذكرها. لا أحد في البيت يريد الاقتراب من الصورة ولا من تاريخ صاحبتها، وكأنها مدعاة لغضب سلطوي مبطن.

جَدتها تستبدل ذكرها بصورة ملك المغرب الراحل وعطاياه، بها تقطع الطريق على السؤال عن الصبية وبقية أهل وجيران شاهدوا نهايتها. لم تدرك الجَدة أن سطوتها العائلية لا يمكن لها أن تمحو ذاكرة الأفراد ولا تمنع التاريخ من الحضور ثانية ولو بعد حين.

كذب أبيض

هذا ما يجده “كذب أبيض” ممكنًا لمراجعة واستعادة تاريخ حدث وعائلة، عبر صور مهملة بتعمد، تُكسر بالبحث عن أصحابها والتحري عن مصائرهم ومعرفة ماذا حل بهم. حواجز الخوف من الـ”جدران التي لها آذان”. لن يعبأ الزمن بمحاولات الراغبين في ذفنه وتضليل الباحثين عن حقيقته؛ بل يلح التاريخ ويحضر على الدوام في الذاكرة، وما على السينمائي سوى إعادة ترتيب تلك الذاكرة وجعلها مدخلًا لقراءة تاريخ بلد وأفراد بالأسلوب الذي يقترحه ويشتغل عليه.

هكذا تُعيد أسماء في وثائقيها المدهش ترتيب ذاكرتها وعوالم طفولتها المحاطة دومًا بضبابية، ما أن تشرع باستعادتها بحرية ومن دون خوف حتى تنقشع عنها الأكاذيب ومكانها تحل صور جديدة، أزمانها تحكي ما جرى للذين عايشوا لحظات التقاطها.

جيرانها المشاركون في الانتفاضة والمتعرضون خلالها للقمع والسجن، يحكون لها عن الفظاعات التي ارتُكبت ضدهم وضد متظاهرين مثلهم طالبوا بأقل ما تفرضه شروط البقاء: الخبز وبقية ما يكفي لعيش زهيد. من عمقها ومن الوجوه التي تؤطرها الصور القديمة، تتوارد أسئلة طالما تهربت الجَدة والأهل من الإجابة عليها: لماذا تكذب الأم حول صورة ليست لها؟ ولماذا يلوذ الأهل بالصمت حين تسأل عن “فاطمة” وآخرين غابوا من الحي فجأة؟ لا تريد صانعة الوثائقي الإجابة عليها من عندها، بل تترك الإجابات تأتي في سياق سرد بصري مدهش لحيوات ووقائع لا يمكن حجبها. وقائع مازالت حية في وجدان أحياء. بكاء الجار أمامها وهو يتذكر ما جرى له ولأصدقاء ورفاق ماتوا في السجون، يكفي لإجلاء عمق المنجز السينمائي وإخلاص صانعته للوسيلة التعبيرية التي تمتهنها ولا تريد للجَدة أن تعرف بها، خوفًا من إفساد عفويتها، وحرصًا منها على إبقاء مساحات البوح عن جوانيات كُل مَن جعلت منه دمية أو مَن أحضرته أمام كاميرتها، متسعة لأسئلتها السينمائية المُحفزة على التفكير بالتاريخ وكيف للمبدع أن يقرأه نقديًا.

اقرأ أيضا: “مجتمع الجليد”… من يدفع الثمن الغالي للنجاة؟

شارك هذا المنشور