منذ عشر سنوات، عرض الأخوان عرب وطرزان ناصر فيلمهما الروائي الطويل الأول «ديجراديه» في مسابقة أسبوع النقاد في مهرجان كان السينمائي. جاء ذلك بعد سنتين فقط من مشاركتهما بفيلم «كوندم ليد» القصير في مسابقة الأفلام القصيرة بنفس المهرجان. منذ ذلك الوقت، عُرف الأخوان المولودان في غزة عام 1988 – بعد عام واحد من إغلاق آخر سينما فيها – بكونهما من الأصوات السينمائية الواعدة الآتية من قطاع محاصر في أرض محتلة.
عام 2020، صنعا فيلمهما الروائي الطويل الثاني «غزة مونامور»، والذي عُرض في مهرجان فينيسيا السينمائي، وبعد خمسة أعوام من هذا التاريخ، أي العام الجاري، أُعلن عن مشاركتهما بفيلمهما الأحدث «كان ياما كان في غزة» ضمن عروض قسم «نظرة ما» في الدورة الـ78 لمهرجان كان السينمائي الدولي، مشاركة كُللت بفوزهما بجائزة أفضل إخراج.

تدور أحداث الفيلم في غزة، عام 2007، حيث يحيى الطالب الجامعي الشاب صديق لأسامة الثلاثيني صاحب مطعم الفلافل والسيارة المرسيدس القديمة الفخمة. يستخدمان المطعم غطاءً لبيع المخدرات، ويوصلان الأقراص المخدرة في سندويشات الفلافل. على الجانب الآخر، يعترض طريقهما في تلك التجارة شرطي هو أبو سامي، يحاول أولًا استمالة أسامة لبيع بعض المخدرات التي يسرقها من المخفر، لكن مع رفض الأخير، يقرر أبو سامي إيقاف كل عمل أسامة وفضحه.
نبدأ الفيلم بمشاهد مؤسسة لكل من الشخصيات الثلاثة: أسامة – في مشهد كوميدي – بينما يدعي مرضًا مزمنًا لطبيب ليكتب له دواءً من ضمن جدول المخدرات (ليبيعه فيما بعد)، وأبو سامي بينما يطلب من أسامة معاونته في بيع المخدرات، ويرفض الأخير لعدم رضاه عن نسبة البيع، فتظهر انتهازية أبو سامي وحقده ضد شخصية أسامة لقوتها وتعاليها، وأخيرًا يظهر يحيى بوجهه الملائكي، المشابه في براءته للأطفال. هكذا، بشكل ما، يضعنا الأخوان ناصر أمام ثلاثة أنماط من الشخصيات يحكون القصة: مواطن، ومخبر، وحرامي، أو للدقة: مواطن، وشرطي، وتاجر مخدرات. من خلال تلك العلاقة بين الثلاثة، نشاهد عملًا يحكي قصة كوميدية من على السطح، وقصة حزينة في عمق تلك العلاقة.

من الخارج، تبدو هذه الكوميديا السوداء وكأنها تعبير عن حزن أو اكتئاب يعيشه السكان، أما من الداخل، فالحزن الحقيقي يكمن في أن كل ما يحدث في هذا الفيلم يجري مع شخصيات لا تملك حرية الحركة، إذ إن مساحة قراراتهم مقيدة بشدة بسبب حصار بلدهم واحتلاله. وهذا ما يجعل الفيلم مركبًا ومعقدًا: فهو مضحك ومسلي، لكنه يحمل رسالة سياسية قوية، قد لا تبدو واضحة منذ الوهلة الأولى، لكنها حاضرة بعمق.
تتجلى الكوميديا في الفيلم من خلال المواقف الساخرة التي يمر بها الأبطال، أو حتى في المواقف الجادة التي يصورها الأخوان ناصر بأسلوب يُحاكي أفلام الفيديو القديمة، باستخدام الكتابة على الشاشة أو المؤثرات البصرية والصوتية لتلك المرحلة. أما الحزن، فيقبع خفيًا لكنه ظاهر من وراء ستار؛ فكل ما يدور في الفيلم هو نتيجة مباشرة لحصار هذا القطاع. الشخصيات الثلاث محبطة، بشكل أو بآخر، من حياتها داخل هذا الجزء الحبيس من العالم. وربما يكون هذا الإحساس هو ذاته الذي صوّره الأخوان ناصر في فيلمهما السابق «غزة مونامور»، والذي تمكنا فيه من الانتصار على الحزن دراميًّا، من خلال قصة حب بين عجوزين.

هنا، في فيلمهما الأحدث، ربما تأتي السينما كإجابة لضرب هذا الحصار، سواء من الأخوين اللذين اختارا السينما مهنة لهما وقررا حكي قصص تلك المدينة، أو ليحيى، الذي يلتقطه مخرج من على القهوة فيخبره بأنه وجه مناسب لبطولة فيلم تصنعه المقاومة، اسمه «الثائر»، فتكون هذه هي فرصته في إيجاد هدف من وجوده. يوافق يحيى، ليبدأ فيلم آخر داخل الفيلم، وتبدأ كوميديا أخرى في الظهور من وراء ضعف إمكانيات إنتاج هذا الفيلم، كاستخدام الأسلحة الحقيقية الخاصة بالمقاومة بدلًا من أسلحة السينما، ما يتسبب في إصابات أو مخاطر على طاقم العمل. مع مرور الوقت، تتضافر أحداث الفيلم الداخلي مع الخارجي، كالتحام للسينما مع الحقيقة.
رغم قتامة الأوضاع الحالية في قطاع غزة وكافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، يأتي فيلم الأخوين ناصر كفيلم سينمائي خالص، يعلّق على السياسة بأذكى طريقة ممكنة، يأتي كنسمة أمل في أوقات غابرة. كلماتهم على مسرح الديبوسي وقت تقديم الفيلم أو استلام الجائزة حكيا فيها عن أمهما العالقة في القطاع، وعن عائلتهما التي تعاني لشهور طوال، شخصيات ربما وضعا من روحها داخل أبطال الفيلم. ورغم أنه فيلم لا يقدم شعارات رنانة، إلا أنك تستطيع أن تدرك أن هذا الفيلم هو بمثابة صرخة لشخصياته ومخرجيه للخروج من هذا القمقم المغلق المحاصر باحتلال لا يرحم.
اقرأ أيضا: «فاصلة» في كانّ مجددًا .. مراجعات سينمائية ورؤى نقدية وحوارات حصرية