يتهيّأ مهرجان كانّ السينمائي لإزاحة الستارة عن دورته الثامنة والسبعين (13 – 24 مايو). مرة جديدة يُقام هذا الحدث الفني والثقافي والإعلامي وسط عالم مشوّش تسيطر عليه الأزمات. التظاهرات السينمائية الكبرى، ومعها الآلاف الذين يتقاطرون إليها، تكاد تكون آخر ما تبقّى من فكرة العالم كمكان مشترك، كملتقى لتبادل الأفكار والآراء، في زمن يتفكّك فيه كلّ شيء. وها إنَّ كانّ يمضي بخطى واثقة وسط الركام، كمَن يصرّ على إضاءة شمعة في عتمة متزايدة يومًا بعد يوم. يأتي المهرجان حاملًا آخر الأخبار، من غرب القارة إلى شرقها، ومن شمالها إلى جنوبها، ليذكّر بأن الشاشة لا تزال تحتفظ بجاذبيتها الأولى، رغم كلّ ما ألمّ بها من اختبارات قاسية، لا سيّما بعد الجائحة.
رئيسة المهرجان، إيريس كنوبلوك، كانت قد ذكّرت بالدور التاريخي الذي اضطلع به كانّ منذ تأسيسه عام 1939، كردّ مباشر على آلة الدعاية التي أطلقها موسوليني من خلال موسترا البندقية. واليوم، في ظلّ المناخ السياسي المتأزم على مختلف الجبهات، ومع تصاعد موجات التطرف والتعصّب والانغلاق، والتهديدات المستمرة باندلاع الحروب في أكثر من منطقة، خصوصًا في الشرق الأوسط، ما عاد مستغربًا أن تؤكد إدارة المهرجان الأكبر في العالم تمسّكها أكثر من أي وقت مضى بالقيم التي تأسّس عليها. في هذا الصدد، قالت كنوبلوك: «وُلد مهرجان كانّ من رغبة صادقة في منح السينمائيين حول العالم ملاذًا آمنًا، وأحيانًا بالمعنى الحرفي. ما وحّدهم، رغم اختلاف خلفياتهم، كان شغف واحد ولغة واحدة: لغة السينما».

هذا المبدأ لا يزال يتجلّى في التشكيلة السينمائية التي ستشغل العالم على مدى 12 يومًا. فكانّ، كما يردّد القائمون عليه دومًا، لا يصنع هذا العالم، بل ينقله جماليًا، ويتيح لأخباره، الجيدة منها والسيئة، أن تجد طريقها إلى جمهور يأتي إليه من أقاصي الأرض.
من بين بحر غزير من الأفلام التي تقدّمت للمهرجان، لم تعبُر الاختبار إلا نخبة قليلة تم ترشيحها للسباق على «السعفة الذهبية»، التي ستُمنَح في ختام الدورة من يد الممثّلة جولييت بينوش، رئيسة لجنة التحكيم. نحو 3 آلاف فيلم روائي طويل عُرضت على لجان المشاهدة، قبل أن يُستقر على 73 فيلمًا روائيًا طويلًا اختيرت في إطار التشكيلة الرسمية، والتي تتوزّع على أقسام عدّة: المسابقة، «نظرة ما»، «خارج المسابقة»، «كانّ بروميير»، و«العروض الخاصة». بالإضافة إلى عروض الأفلام القصيرة والكلاسيكيات. هذه الأقسام تشكّل المتن الحقيقي للمهرجان، الرئة التي يتنفس منها، والمادة التي يُفترض أن يُراهن عليها، لأنها تمثّل «زبدة الزبدة»، خلاصة ما يُنتج عالميًا من سينما يُعتدّ بها فنيًا وفكريًا وجماليًا. لا مجال للخطأ في التقديرات، والنقد الرصين لا يتسامح معه. ورغم ذلك، فإنّ الخيارات في مهرجان كانّ، التي تخضع في نهاية الجولة لاعتبارات الذوق والرؤية والمصالح، وأحيانًا لحسابات السوق وللمراعاة الجغرافية والجندرية، لطالما كانت محلَّ تململ. ومع ذلك، إذا جمعنا كلّ ما نشاهده طوال عام كامل، فأغلب الظن أنّ الجزء الأكبر منه سيكون مصدره كانّ.

في السنوات الأخيرة، ومع احتدام الصراع بين لوبيات سياسات الهوية وعالم الفن، أصبحت أيادي المسؤولين عن اختيار الأفلام مكبّلة وحريتهم مقيدة؛ لا سيما في ما يتعلّق بالمساواة الجندرية. في هذا الخصوص، صرّح المدير الفنّي تييري فريمو لمجلة «باري ماتش»: «في زمن «الموجة الجديدة»، كانت المخرجة أنييس فاردا المرأة الوحيدة في الساحة. ورغم ما عُرف عنها من دعمٍ صادق لرفيقاتها في المهنة، قالت لي ذات يوم: ينبغي أن يقوم الاختيار على الجدارة الحقيقية. لا يجوز أن يُختار فيلم لمجرّد أنه لمخرجة، بل لأنه يرقى إلى المستوى الفنّي المطلوب. وهذا صحيح، لا ينبغي أن نستبدل التمييز بتمييز آخر، حتى وإن كان معكوسًا. غير أن عشقنا للندرة يدفعنا، في لحظات التردد بين فيلمين متقاربين، إلى ترجيح كفّة الفيلم الذي يحمل توقيع امرأة على ذاك الذي أخرجه رجل».
في جميع الأحوال، فإن الكمّ الهائل من الأفلام المُرسلة إلى المهرجان يؤكّد مكانته العالمية بوصفه المنصّة السينمائية الأهم، لكنه يكشف أيضًا عن عطش لا ينضب للحكي بالصورة، وعن رغبة جماعية في التعبير، في البوح، في تسجيل الأثر. هي ألف حكاية تنزف من الحصارَين الروحي والجسدي، من الحب، من الطفولة، من الأمومة، من الخلاف العقائدي، من أزمات الإنسان المعاصر الذي يواجه مصيره باللحم الحي، وأحيانًا لا يجد مناصًا من الاستسلام.

هذه بعض التيمات التي تتردد أصداؤها في دورة هذا العام، في انتظار اكتشاف مزيد منها خلال أيام المهرجان. مع التذكير بأن كانّ لا يقوم فقط على العرض، بل أيضاً على التقاطعات: ماذا يعني أن يتناول مخرج كوري وآخر روماني الموضوع ذاته، لكن بأساليب، وإمكانات وخلفيات فكرية وجمالية مختلفة تماماً.
خيار الافتتاح بباكورة المخرجة الفرنسية أميلي بونان، «الرحيل يومًا»، (خارج المسابقة)، يطرح النبرة: دورة ستكون مزيجًا من قدامى المهرجان ومَن يضمنون مستقبله. الفيلم دعوة لقراءة السينما الفرنسية الجديدة بنبضها الموسيقي، من خلال قصّة مغنّاة عن امرأة تضطر للعودة إلى قريتها بعد إصابة والدها بمرض، لتلتقي بحب قديم وتشوّش حاضرها.

في المؤتمر الصحافي الذي عقده فريمو للإعلان عن برنامج المهرجان، أوضح أنه يعمل بمبدأ دار النشر، أي أنه يبقى وفيًا للفنانين الذين آمن بهم منذ البداية. ومن هذا المنطلق، لا يرى مشكلة في عودة بعض الأسماء التي صنعت مجد كانّ. من هؤلاء، يعود الشقيقان البلجيكيان الشهيران لوك وجان بيار داردن، وهما المخرجان الوحيدان في مسابقة هذه الدورة اللذان نالا «السعفة الذهبية» مرتين. في جديدهما، «أمهات شابات»، يواصلان طرح أسئلتهما الأثيرة حول الهشاشة الاجتماعية، من خلال معالجة موضوع الأمهات داخل مراكز الإيواء. منذ «روزيتّا» (1999)، عرض الأخوان كلّ أفلامهما في المسابقة، وكأنّ المهرجان أراد الحفاظ على هذا التقليد الذي تربطه بهما علاقة طويلة.
في المقابل، أُدرج فيلم «قضية 137» للفرنسي دومينيك مول ضمن المسابقة، كنوع من التعويض عن الإقصاء السابق. فقد كان فيلمه السابق «ليلة الـ12» قد عُرض في فقرة «كانّ بروميير»، قبل أن يحقّق نجاحًا نقديًا وجماهيريًا لافتًا، تُوِّج بسبع جوائز «سيزار». مول، الذي انطلق فعلياً قبل 25 عاماً مع رائعته «هاري، صديق يريد لكم الخير»، يعود اليوم ليحقّق في قضية فرنسية أثارت الجدال، مقدّماً عملاً يُمعن في كشف عنف المؤسسات من الداخل، وهو ما تناوله أيضًا في عمله السابق.

في المسابقة، وهي المعراج الأعلى على الكروازيت، ستتواجه 22 فيلمًا، أضيف بعضها في اللحظة الأخيرة كالصيني «القيامة» لبي غان. أفلام تنتمي إلى جغرافيات متضاربة وهموم تتفاوت بين الحميمي والسياسي، بين الصامت والصاخب.
«الأميركان» يعودون إلى المسابقة بقوة. كيلي رايكارد تواصل حفرها في الشخصيات الهامشية، بفيلمها «الرأس المدبر»، عن سطو وسط أجواء حرب فيتنام، حيث تتقاطع حركة تحرير المرأة مع سؤال الهوية. ريتشارد لينكلايتر (ولو أنّ فيلمه فرنسي) يحضر، بعد انقضاء 3 أشهر فقط على عرض فيلمه الأحدث في برلين، بـ«موجة جديدة»، عن التيار السينمائي الفرنسي الشهير. وس أندرسون، بعالمه المزخرف الذي تحكمه جماليات أصبحت علامته التجارية، يقترح «الخطة الفينيقية» (ألماني الإنتاج)، بانوراما لزمن مفقود تؤدّيها كوكبة من الوجوه المألوفة، أبرزهم بينيسيو دل تورو. ومن الجيل الذي فرض نفسه بقوة، يلمع اسم آري أستر بفيلمه «إدينغتون»، عن صراع بين شريف وعمدة خلال الجائحة. فيلم سياسي في لبوس نفسي يقوده النجم الكبير واكين فينيكس المنتظر على الكروازيت مع مجموعة من النجوم مثل توم كروز وكايت بلانشيت الذين سيشاركون أيضًا في كانّ هذا العام.

من الأسماء التي أُضيفت في اللحظة الأخيرة: البريطانية لين رامزي التي تقدّم «متّ يا حبّي». يلخّصه موقع المهرجان بأربع كلمات: «حبّ جنون، جنون حبّ». رامزي عرضت كلّ أفلامها في كانّ، وهي واحدة من أهم السينمائيات الاسكتلنديات. الإيطالي ماريو مارتوني يعود إلى الثمانينات بـ«خارج»، فيلم عن كاتبة تُسجن بتهمة السرقة، لتخرج بسرديات أكثر صدقًا من أي اعتراف. ومثله، يتوجّه الأوكراني سيرغي لوزنيتسا بـ«قاضيان» إلى الماضي، ملتقطًا سيرة مدعٍ عام يحاول أن ينقّب في الرسائل الممنوعة خلال الحقبة الستالينية. تاريخٌ يتحرّك من خلال صوت منفرد يحاول أن ينقذ ما تبقّى من ذاكرة محترقة. يواكيم ترير بدوره من الأسماء التي يمكن المراهنة عليها، إذ يقترح مع «قيمة عاطفية»، قصّة مخرج منسي يحاول أن يصالح ابنتيه من خلال فيلم جديد، على أمل أن يحافظ على المستوى الذي كان وصل إليه في فيلمه السابق «أسوأ إنسان في العالم».
البرازيلي كليبير مندونسا فيلو، يقدّم «محقّق خاص» حيث سبعينات البرازيل تتحول إلى خلفية لثريللر سياسي قاتم. هو الآخر، مثل لوزنيتسا، يعود إلى حقبة مؤلمة: الديكتاتورية العسكرية. أما جوليا دوكورنو، التي فاجأت العالم بـ«تيتان» («سعفة» كانّ 2021)، فتقترح «ألفا»، فيلم عن مراهقة تصبح ضحية شائعة، وفيه من العذاب الاجتماعي بقدر ما فيه من شفافية شاعرية.

من إيران، ورغم المنع والرقابة والحظر الذي يأخد أبعادًا سوريالية عندما يتعلق الأمر بهذا البلد، يأتينا جعفر بناهي، وذلك بعد غياب 7سنوات عن كانّ، بـ«مجرد حادث». لا نعرف عن الفيلم أكثر ممّا يكشفه الملخّص: بعد حادث سير بسيط، تتوالى الأحداث. والحادث هو ما سنراه أيضًا في «امرأة وطفل» لمواطنه سعيد روستائي. القصة: ممرضة تواجه الحياة وحدها بينما تربّي أطفالها، وعند لحظة شعورها بأنّ أمورها بدأت تستقر، يقع حادث مروّع يقلب حياتها رأسًا على عقب.
هناك أسماء جديدة تحاول التقدّم وسط عمالقة. «صراط» للفرنسي الإسباني أوليفييه لاكسي، «رونوار» لليابانية هاكاواكا شي، «تاريخ الصوت» للجنوب أفريقي أوليفر هيرمانوس، «صوت السقوط» للألمانية ماشا شيلينسكي. الجيل الذي ولد في الثمانينات يسعى نحو المجد، والمهرجان يُمهّد له الطرق.

الحضور العربي داخل المسابقة لافت، وإن كان ضمن إنتاجات غربية وسينمائيين إما أنّ جذورهم عربية أو يتناولون شؤونًا تتعلّق بالعالم العربي أو كلاهما معًا. حفصية حرزي، الفرنسية التونسية، تأتي بـ«الأخيرة الصغيرة»، فيلم عن اكتشاف شابة لهويتها الجنسية بعد انتقالها من الضواحي إلى عالم منفتح. الحميمية تصطدم بالعرف، والهوية تصير ساحة معركة داخل الذات. ومن السويد، المخرج المصري الأصل طارق صالح يطرح «نسور الجمهورية»، قصّة ممثّل يتعرض لضغوط لتجسيد دور لا يريده؛ سردية عن الفنّ كأداة سلطة.
قسم «نظرة ما» التنافسي، يبرز أفلامًا عربية لثلاثة مخرجين: التونسية أريج السحيري التي تفتتح هذه الفقرة البديلة للمسابقة، بـ«سماء بلا أرض». المصري مراد مصطفى بعدما كان شارك في كانّ بفيلم قصير،يدخل «نظرة ما» مع «عائشة لا تستطيع الطيران»، فيما التوأمان الفلسطينيان عرب وطرزان ناصر ينافسان مع «كان ياما كان في غزة». أفلام أخرى من ضفاف مختلفة تشارك في هذا القسم، ضمن مجموعة من 20 عملاً واعداً تضم أيضاً أول تجربتَيْن إخراجيتَيْن للممثّلتين الأميركيتَيْن سكارليت جوهانسون وكريستن ستيورات.

الأسماء المشاركة في الأقسام الأخرى لا تقل توهّجًا: الأميركي المشاكس سبايك لي، والروسي المنفي كيريل سيريبرينيكوف، والفرنسيان سدريك كلابيش وسيلفان شوميه وريبيكا زلوتوفسكي، والأميركي إيثان كووين (الذي يعزف هذه المرة منفردًا من دون أخيه). سنشاهد أيضًا آخر أعمال الألماني التركي فاتح أكين، فيما أيقونة الكوميديا الفرنسية بيار ريشار سيقّدم عملاً جديداً وهو في سنّ الـ91. الأقسام الموازية، من «أسبوعا صنّاع السينما» (ينطلق بـ«إنزو» للراحل لوران كانتيه أكمله نيابة عنه روبان كامبيّو، ويمنح جائزته التكريمية السنوية للمخرج الأميركي تود هاينز)، و«أسبوع النقّاد»، و«أسيد»، ستأتي أيضًا بحصادها السنوي الثمين. هذه الأقسام أشبه بـ«مهرجان داخل المهرجان»، تتبلور في وكار بعيدًا من السجادة الحمراء والبهرجة الكانّية. وسينطلق قسم «أسيد» بحادث مروّع تعرض له، إذ إنّ فيلم «ضع روحك على كفك وامشِ» للمخرجة الإيرانية سبيده فارسي خسر «بطلته» الفلسطينية فاطمة حسونة في غارة إسرائيلية على غزة قبل أسابيع من انطلاق المهرجان.
أخيرًا، ستكرّم هذه الدورة الممثّل الأميركي الكبير روبرت دنيرو، 81 عامًا، الذي يعود إلى كانّ بعد نحو نصف قرن على مشاركته فيه مع «سائق تاكسي» لسكورسيزي الذي نال يومها «السعفة الذهبية». وفي المناسبة، سيُجري دنيرو لقاء مع الجمهور ليحكي عن تجربته المديدة.
اقرأ أيضا: كل ما تريد معرفته عن أفلام مسابقة كان 78