فاصلة

مقالات

كافكا بين أورسون ويلز وستيفن سودربيرغ

Reading Time: 7 minutes

عرض المنتج ألكسندر سالكيند على أورسون ويلز، معالجة إحدى الكلاسيكيات الأدبية في فيلم.  وقدم لويلز قائمة من 82 رواية ليختار من بينها فكانت «المحاكمة» لفرانز كافكا هي خيار ويلز الأول.  تبين ويلز وسالكيند أن الرواية لم تدخل بعد حيز المشاع الإبداعي، وعليهم أولا الحصول على حقوق تبنيها في عمل سينمائي فبادر ويلز إلى جمع ميزانية تقدر بـ 1.3 مليون دولار، بعدما وعده سالكيند بالحرية الإبداعية الكاملة في الفيلم، لكن عندما حانت ساعة التصوير، اكتشف ويلز اختصارات في الخطة المالية؛ كان من المفترض سفر ويلز إلى موقع التصوير في يوغوسلافيا، لكنه أُجِبر على بدائل: محطة سكة حديد باريسية مهجورة، ثم زغرب عاصمة كرواتيا، وهي مدينة في أوروبا الوسطى تشبه في هويتها البصرية مدينة براغ. 

كافكا

لم يعمل المخرج الكبير أورسون ويلز بالمُصَادَرَة الجمالية التي نُحِتتْ من نزوات المعالجات السينمائية المتواضعة، مُقارَنَة بأصولها الأدبية الكبيرة، وهي نزوات وقع فيها مخرجون كبار، مثل فيلم «سوان في الحب» 1984 للمخرج فولكر شولوندورف المأخوذ عن رواية «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست، أو فيلم «الأبله» 1951 للمخرج أكيرا كوروساوا المأخوذ عن رواية «الأبله» لدوستويفسكي، أو فيلم «الحرب والسلام» 1956 للمخرج كينغ فيدور المأخوذ عن رواية تولستوي «الحرب والسلام». 

كافكا بين أورسون ويلز وستيفن سودربيرغ

المُصَادَرَة الجمالية تقول بأن الأعمال الأدبية الكبرى غير صالحة للمعالجات السينمائية، إذ تبقى غارقة في أدبيتها، مُتحجرة بقيمتها وكعبها العالي، محمية بملايين القراءات والقُرّاء الذين يُصعب إرضاؤهم مرةً ثانية عبر الصورة والصوت. 

كافكا بين أورسون ويلز وستيفن سودربيرغ

عمل ألفريد هيتشكوك وأندريه تاركوفسكي وستانلي كوبريك بتلك المُصَادَرَة الجمالية، فكانوا يعالجون أعمالًا أدبية من الدرجة الثانية، مثل فيلم «ريبيكا» 1940 لهيتشكوك، وفيلم «ستالكر» 1979 لتاركوفسكي، وفيلم «ذا شاينينغ» 1980 لكوبريك. 

 هكذا كانت تجربة أورسون ويلز السينمائية مع رواية فرانز كافكا، محفوفة بالمخاطر. تعامل ويلز مع رواية كافكا في فيلمه «The Trial»، «المحاكمة» (1962) بأمانة شبه مطلقة، وكأنّه يلتمس القيمة من مجرد الاختيار لأدب فائق، وهذا الاختيار يضع السينما في مكانة أقل شأنًا من مكانة الأدب.

كافكا بين أورسون ويلز وستيفن سودربيرغ

قام ويلز في فيلم «المحاكمة»، بتفريغ مَشَاهِد الرواية، فطمس بسرعة إيقاعه، الأبعاد الدفينة في الرواية، وأبقى فقط على البُعد السياسي. في مقابلة مع ويلز صرّح بأنه أراد وضع فيلمه «المحاكمة»، في سياق تاريخي.

 «أردت أن أرسم كابوسًا معاصرًا، فيلم عن الشرطة، والبيروقراطية، والسلطة الشمولية، واضطهاد الفرد في المجتمع».

 غرور ويلز لم يسمح له بمعرفة أن البُعد السياسي لرواية «المحاكمة»، هو القشرة الخارجية، أو هو قشرة الموز التي ينزلق عليها القرّاء البسطاء بسهولة منذ السطور الأولى، ومع التأويل السياسي الجاد لويلز، ونفاد صبره، دهس على سبيل المثال، الكوميديا السوداء لشخصية «ماكس» عم «جوزيف ك» الذي علم بقضية ابن أخيه. ربما اعتقد ويلز أن الكوميديا السوداء تُضعف هدفه السياسي الأحادي. إن ثقة ويلز في براءة بطله «جوزيف ك»، ودفعه إلى الانتفاضة ضد محاكمته، بعيدتان عن «ك» الرواية، فأكثر ما يبعث السحر والجمال في شخصية «جوزيف ك» الروائية، هو عدم ثقته في براءته التامة، فقد يكون مذنبًا، وقد يكون بريئًا، إنه يبحث عن الذنب، أو يبحث عن البراءة، وكلاهما، الذنب والبراءة، على حد سواء، لا يستدعيان منه حماسة ويلز. 

استعان أورسون ويلز في فيلم «المحاكمة» بنجوم كبار، أنتوني بيركنز في دور «جوزيف ك»، جين مورو في دور الآنسة «بورستنر»، ورومي شنايدر في دور «ليني الممرضة»، وأخيرًا أورسون ويلز نفسه في دور المحامي «ألبرت»، واستخدم في تصوير الفيلم، الأبيض والأسود، وأسرف في أسلوب بصري باروكي، يعتمد على اللقطات الطويلة، وإضاءة السينما التعبيرية الألمانية في العشرينيات من القرن الماضي. المُفارَقَة أن فخامة الباروك المعمارية، كانت تبعده عن روح رواية كافكا. لم يطق ويلز في أحاديثه بعد التصوير، مُقارَنَة فيلمه برواية كافكا. كان يعتبر نفسه شريكًا لكافكا في بناء المحاكمة.  

كافكا بين أورسون ويلز وستيفن سودربيرغ   

في أول تحقيق مع ك، خارج المحكمة، أضاف ويلز محاكمات النازية التاريخية، رجال عراة معلقة في رقابهم لوحات بأرقام الموت. وعلى الرغم من أن إضافات ويلز لرواية كافكا قليلة، إلا أنها كارثية. إن مضاهاة محكمة كافكا بمحكمة النازية، تفتقد للحساسة الفنية بشكل يدعو إلى اليأس. محكمة كافكا الملتوية، الغامضة، اللعوب، العبثية، الفلسفية، الطفولية في أحيان أخرى، تتحول في بإشارة واحدة، فظة، إلى محكمة نازية. 

 إضافة ويلز الثانية، هي تغيير نهاية موت «جوزيف ك»، فبينما يُطعن «ك» بسكين من قِبَل الحارسين في نهاية رواية كافكا، يقوم ويلز بواسطة الحارسين أيضًا، بدفع جوزيف ك إلى حفرة، ويلقي الحارسان على ك حزمة من أصابع الديناميت، وبحسب رمزية ويلز المباشرة، وردة الانفجار، الشبيهة بفطر عيش الغراب، تحاكي انفجار القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي. 

كافكا بين أورسون ويلز وستيفن سودربيرغ

 تجربة سينمائية أخرى شهيرة جاءتْ بعد تجربة أورسون ويلز ب 29 عامًا، وهي فيلم «Kafka»، «كافكا» 1991 للمخرج ستيفن سودربيرغ. تبدأ اللقطات الأولى في الفيلم بجريمة قتل. تأكيد سريع ومباشر من سودربيرغ، أن جماليات السينما الأمريكية، لن تحتمل كثيرًا مُراوغات فرانز كافكا التي تُظهر تحقيقات الجريمة، وتؤجل فعل الجريمة المباشر إلى ما لا نهاية، حتى لو فَقَدَ سودربيرغ منذ البداية، الكثير من عمق المراوغات الميتافيزيقية الكافكاوية. 

كافكا بين أورسون ويلز وستيفن سودربيرغ

يلعب الممثل الإنجليزي جيرمي آيرونز دور كافكا، وهو يملك نظرةً لافتة، مؤثرة، ثقيلة، مثل التي يملكها فرانز كافكا في صوره الفوتوغرافية. يعمل كافكا في شركة تأمين بيروقراطية منضبطة إلى حد العبث. يسأله رئيسه في العمل عن تقرير حكومي. يرد كافكا بأنه انتهى من كتابة التقرير، وسلَّمه للجهة المختصة. الرئيس يعتبر أن كافكا تجاوز القواعد البيروقراطية، وذلك بعدم مرور التقرير عليه هو أولًا، ثم يردد على مسامع كافكا تلك القاعدة الشهيرة التي نجد أصولها في رواية «القلعة» لكافكا: «أحيانًا، وهو أمر نادر الحدوث، يضيع تقرير إلى الأبد، لمجرد عدم الالتزام بترتيب صعوده للجهة المختصة. تسليم التقرير لي أولًا، هو بمثابة ختم حكومي، ختم بقاء، وحفظ للتقرير أولًا، وبقاء لك في العمل ثانيًا». 

 لا يهتم كافكا بعمله في شركة التأمين، لكنه يهتم بكتاباته التي يراها والده تافهة. يبحث كافكا عن صديقه إدوارد رابان الذي قُتِل في اللقطات الأولى من الفيلم. أثناء البحث يتهرب كافكا من أصدقاء له، بحجة أنه مشغول بالكتابة عن رجلٍ يستيقظ من نومه، فيجد نفسه فجأةً وقد تحوَّل إلى حشرة كبيرة. إشارات المخرج سودربيرغ إلى «المسخ»، وإلى «في مستعمرة العقاب»، والخطابات التي يكتبها لوالده، القريبة من «رسالة إلى الوالد»، وجميعها من أعمال كافكا، إشارات عابرة، تعني بأن كل كتابات كافكا، مادة لدراما الفيلم بشكل ما، وقد يعني هذا أيضًا، الإعجاب الجارف بتراث كافكا كله، لكن هذا الإعجاب ليس بالضرورة في صالح الفيلم، لأن الإحالة الدائمة لتراث كافكا، تعطي الانطباع بأن سيناريو الفيلم كان مشتتًا في الاختيار، وبأن قيمة كتابات كافكا، سابقة على قيمة الفيلم، وقد تُكسبه قيمةً إضافية دون مجهود، لمجرد حضورها العابر في جُمْلة حوار. كان يكفي سودربيرغ رواية «القلعة»، لأنها الأكثر اشتباكًا مع أحداث الفيلم. 

يتعرَّف كافكا على جثة صديقه إدوارد رابان. يدفع المحقق غروباخ في تحليله إلى انتحار إدوارد رابان بينما كافكا يميل إلى حادثة قتل صديقه. في العمل، ولأسباب غير واضحة، يقوم الرئيس الأعلى لشركة التأمين، بترقية كافكا، وتعيين مساعدين له. يحوم الرئيس الأعلى حول وقت فراغ كافكا. وينصحه بممارسة الرياضة البدنية، لأنها تضفي على الإنسان شيئًا من الحيوية. يسأل الرئيس الأعلى كافكا قبل خروجه من مكتبه بعطف أبوي، وكأنَّ السؤال عرضي ولا يستحق إجابة مطولة، إن كان يعتبر نفسه كاتبًا. يرد كافكا: «كاتب من النوع الصغير». دائمًا كافكا لا يُخيِّب آمال مَنْ حوله في تقدير نفسه. المساعدان المضحكان ينتظران كافكا في مكتبه. لودفيغ وأوسكار، وهما في رواية «القلعة» أرتو ويريمياس. المساعدان يقولان إنهما توأم إلا أن ملامحهما لا تقول ذلك. ينطقان بتزامن عبثي، ردًا على سؤال بسيط من كافكا، بنعم ولا، ثم يتبادلان النفي والإثبات أو يؤكدان معًا النفي أو الإثبات. 

كافكا

غابريلا روسمان زميلة كافكا في العمل، تُعلمه بأن إدوارد رابان، كان عضوًا في مجموعتها الثورية، وهم يقومون بتفجيرات ضد القلعة أو ضد السلطة الحاكمة، وما ينقصهم، هو كتابة منشورات بجودة عالية. يرفض كافكا تكريس كتابته لهدف سياسي، فهو يكتب لنفسه. 

طبيعة الفيلم الأمريكي لا تصمد طويلًا أمام الغموض. لا بد للمخرج سودربيرغ من هدف واضح مثير، يبتلع الغموض، أو يعتذر عنه، ولا بد أيضًا للبطل كافكا من مواجهة القلعة، فهو بطل أمريكي، وفي سينما أمريكية. 

حفَّار القبور، أو نحَّات شواهد القبور، المعجب بكتابات كافكا، يدله على قبر فارغ، وهو طريق سري للقلعة. وصية كافكا إلى حفَّار القبور، أن يتخلَّص من أعماله التي لم تُنْجَز بعد. هكذا يتحوَّل حفَّار القبور فجأةً إلى ماكس برود، صديق كافكا في الواقع، الذي قام بنشر أعماله ولم يحرقها كما طلب كافكا منه. مشكلة الثلث الأخير في معظم الأفلام الأمريكية، هي تسارع المعلومات الدرامية المباشرة، من أجل الوصول للنهاية. 

يلهث ستيفن سودربيرغ بإيقاعه، للوصول إلى القلعة، التي نرى فيها ما هو متوقع في تخييل السينما الأمريكية. محاولات التحكم في الإنسان عبر آلة عملاقة، تسلط شعاعًا على أعلى رأسه. خيال روايات باتمان المصوَّرة، المتحكمة في العقول الأمريكية منذ نهاية الثلاثينيات. الممثل جيم كاري في فيلم «باتمان للأبد» 1995، وهو يسلط شعاعًا على رأسه، ليمتص خلاصة عقول الآخرين أو خبراتهم.

في نهاية الفيلم، يُفسد كافكا، البطل على طريقة سودربيرغ، آلة القلعة الشريرة، ثم يكتب خطابًا لوالده، وهو يبصق الدم في منديله، إشارة إلى موته بالسل الرئوي، وهي أيضًا إشارة مفاجئة، ضعيفة، وميلودرامية في زمن الفيلم، لكنها بمنظور التاريخ الواقعي، تراجيدية، ومصيرية.

 هاتان محاولتان من مخرجين في عداد «الكبار» نقل كل منهما أدب كافكا إلى السينما على طريقته فأفسد العمق الفلسفي والطبقات النفسية المتراكبة التي تفرَّد بها أدب كافكا لصالح بيان سياسي في حالة أورسون ويلز أو بطولة ومغامرة أمريكية في فيلم سودربيرغ. ولا يزال أدب كافكا غنيًا عن معالجات تنتقص منه ولا تخلص إليه.   

اقرأ أيضا: «سيناريو حلم»: هل تخترق التكنولوجيا أحلامنا يوماً؟

شارك هذا المنشور