ما إن تشارف السنة نهايتها، حتى تبدأ المهرجانات التي تُعقد في الفصل الأخير من العام بعرض أهم ما جاء في أكبر التظاهرات السينمائية طوال الأشهر الماضية. لذلك، لا عجب أن تُشارك في مهرجانات متتالية وتُصادف الفيلم نفسه في جميعها، خصوصاً إذا كان يستوفي الشرطين اللذين يغويان المبرمجين: قضية مهمة من صلب الواقع الاجتماعي واشتغال سينمائي من الدرجة الأولى. وهذه حال «قصّة سليمان – Souleymane’s Story» الذي شاهدناه في كلّ من الجونة (مصر) وأجيال (قطر)، مهرجانين حضرتهما في الأسابيع الأخيرة.
كان «قصّة سليمان» فاتني في مهرجان كانّ الأخير، حيث فاز بجائزتين، جائزة قسم «نظرة ما» وجائزة التمثيل الممنوحة لأبو سانغاريه، بالإضافة إلى جائزة «فيبرسي» غير الرسمية. أما على مستوى الإقبال الجماهيري، فحقّق الفيلم نحو نصف مليون مشاهد في الصالات الفرنسية وكان مناسبة لفتح النقاش حول اللجوء والهجرة غير الشرعية في الغرب، بعيداً من المهاترات والابتذال.
المخرج بوريس لوجكين أنجز أفلامًا عدة خارج فرنسا. في سجلّه فيلمان وثائقيان في فيتنام وفيلمان روائيان في أفريقيا، ممّا يعطي فكرة عن اهتماماته. هذا إن دل على شيء فعلى اطلاع المخرج على الموضوع الذي يتناوله هنا. قبل كتابة السيناريو (مع دلفين أغو)، أجرى بحوثًا معمّقة جعلته ينخرط في أوساط عمّال التوصيل غير الشرعيين وبيئتهم. ولم يتوانَ عن استلهام خطوط القصّة العريضة من تجربة بطله أبو سانغاريه (23 عاماً) الذي يلعب دور سليمان والذي لا يزال إلى اليوم في وضع غير قانوني رغم نيله جائزة في أكبر محفل سينمائي حول العالم، لا بل هو مهدد بالترحيل من فرنسا، وذلك بعد ثلاثة طلبات لجوء انتهت بالرفض. وليجسّد الدور بأفضل حال، عمل أبو سانغاريه عامل توصيل لمدة أسبوعين.
إلى اهتماماته «العالمثالثية»، درس لوجكين الفلسفة، مما يتيح له مقاربة السينما بمعزل عن الثنائيات التقليدية. فيلمه يقفز فوق الصدامات الثقافية، الناتجة من العلاقة الاشكالية بين الغرب والشرق، بل يتجاوز هذا كله. أشياء من صميم الطبيعة البشرية، أبرزها الرغبة في البقاء والغريزة التي تتعلّق بها.
«قصّة سليمان» عن معاناة شاب من غينيا (أبو سانغاريه) يشتغل عاملًا للتوصيل المنزلي في انتظار الموافقة على طلب اللجوء الذي تقدّم به في باريس. بإيقاع متوتّر يحبس الأنفاس، تتعقّبه الكاميرا طوال 48 ساعة لتُرينا ما سيعيشه أثناء القيام بمهامه. يومياته حافلة بالتوجّه من مكان إلى آخر، وفي باله ثلاث مسائل تتكرر كلازمة وتشغله باستمرار: قبض مستحقّاته من شخص يعمل لحسابه بـ«الأسود»، والحصول على الأوراق الرسمية من الرجل المتمرس الذي يعلّمه كيف ينجح في امتحان الحصول على صفة اللاجئ.
أما الهم الثالث فيتمثّل في اللحاق بالباص الأخير الذي ينطلق في ساعة متأخرة ليلاً ويوصله إلى مركز إيواء حيث يمكنه تمضية الليل. حياته تتحلّق حول هذه اللحظات الثلاث، وتلف في نوع من حلقة مفرغة، مع تقدّم طفيف في إتجاه الحل في ظلّ ظهور ضوء خافت في آخر النفق.
نحن حيال فيلم لا يهدأ، موفّرًا سباقًا متواصلًا مع الزمن. يتوقّف للحظات ليلتقط أنفاسه قبل أن يتابع السير الجهنمي من جديد. كلّ شيء ضد سليمان الذي يحمل الفيلم اسمه ويروي قصّته ببساطة شديدة، فلن تكون هناك حبكات متداخلة وعودة إلى الخلف وانصهار للحكاية الصغيرة في الحكاية الشاملة.
سير الأحداث خطي للغاية، شأنه شأن الدراجة التي يركبها سليمان. وهكذا سيأخدنا الفيلم شهودًا خلال يومين متتاليين على حياة إفريقي مُلقى في غابة من التحديات من أجل البقاء المزدوج (البقاء المكاني والبقاء الزماني)، بحيث يبدو كلّ شيء معاديًا له ومناهضاً لوجوده. على هذه الأفكار البسيطة، يشتغل المخرج الذي يضعنا داخل رحلة سليمان القصيرة، فنمشي على خطاه، لتصبح معاناته معاناتنا وتحدياته تحدياتنا.
لكن ثمة حدود لهذا الأسلوب التأثيري الضاغط، فنحن مهما يكن، لن نصبح سليمانًا. سنتعاطف معه ونفهمه، بيد أننا لن نشعر بما يشعر به. فمَن يشاهد ليس كمَن يعيش، الفيلم يذكّرنا بهذه الحقيقة، ربما من غير قصد، لكنه في الحين نفسه، يحاول لحظة خلف أخرى، تعزيز قوة الحواس، ورفع منسوب التعاطف من خلال الدفع بالموارد السينمائية إلى أقصاها، لكن من دون غش وتدليس، وبلا أساليب ملتوية لاستدرار العواطف، بل باحترام شديد لعقل المُشاهد.
صحيح أن الفيلم روائي خالص، لكنه يستمد أهميته من كونه يدنو من الوثائقي، أو على الأقل هو عميق في المسح الاجتماعي الذي يجريه إلى درجة يبدو عميقًا في نقل الواقع الصرف بلا أي محاولة للتجميل. نعم، سنعرف الكثير عن ظروف شاب في مثل حال سليمان، بفترة قياسية، من خلال تمضية تسعين دقيقة معه، وهذه أكثر تسعين دقيقة تكثيفًا في السينما مؤخرًا، إذ نخرج بانطباع أن السيناريو يعرف تمامًا ماذا ينوي إيصاله، مثلما يعرف بالضبط أين ينتهي وكيف.
رغم بُعده الوثائقي المطل على بيئة الوافدين من بقاع مختلفة من الأرض، يمكن القول أن الفيلم عن سليمان، شخص يحمل اسمًا واضحًا ولديه قصّة واضحة ومطلب واضح، هذا رغم بساطة تلك القصّة وتكرار مثيلاتها في البلدان الغربية حاليًا. يحرص الفيلم على منحه حضورًا وصوتًا وآليات دفاع عن الذات عندما يحتاج إلى ذلك. لن يبقى سليمان ظلًا في خلفية المشهد ولن يذوب في الوعاء الاجتماعي الكبير. لن يُستغل كما في الكثير من الأفلام.
رغم كلّ ما سيواجهه، لن نراه كضحية يثير الشفقة. سيبقى رأسه مرفوعًا وكرامته غير قابلة للمساس. هو إنسان يتحكّم بجزءٍ كبير من مصيره، مُخيَّر لا مسيَّر. قد نلتقي يوميُا بعشرات مثل سليمان، ولن نلتفت إليهم قطّ، لكن للسينما هذه القدرة على الإضاءة على مَن لا نكترث لهم، فتساعدنا على رؤيتهم وعلى إخراجهم من حيز اللامرئي. في هذا المعنى، الفيلم بأكمله إعادة تموضع، لنرى الواقع من زاوية أخرى، بعيدًا من الأفلام التي تحكي عن أزمة اللجوء بصيغة جماعية، مميزًا أحد هؤلاء الذين يتحدّرون من أزمة اللجوء، ليبني هذا التواصل الفريد بين مَن يعيش الحالة ومن يشاهدها.