فاصلة

مراجعات

“قتلة زهرة القمر” ….. جمال مؤلم

Reading Time: 3 minutes

يتطلب فيلم “Killers of the Flower Moon” استكشاف ما هو أبعد من الانطباع الأولي لحكاية الظلم التاريخية المؤرقة والوحشية التي مارسها الرجل الأبيض ضد السكان الأصليين. حيث تكشف طبقات الفيلم عن ملاحظات غاية في الدقة إزاء الهياكل المجتمعية، المأخوذة بمغريات الثروة، مقابل الروح الإنسانية المناضلة في مواجهة الظلم الذي لا يمكن تصوره. وذلك من خلال رواية مرعبة وملحمية لجرائم القتل في أوسيدج في عشرينيات القرن الماضي، شكّلها مارتن سكورسيزي في مشاهد سينمائية تفضح متوالية الخيانة والجشع والعواقب المدمرة للعنصرية النظامية.

من خلال الأداء الآسر لليوناردو دي كابريو وروبرت دي نيرو، يكشف الفيلم بدقة شبكة الفساد التي أدت إلى القتل الوحشي لعشرات من أفراد أوسيدج، الذين استنزفت ثرواتهم من قبل الرجال البيض المتعطشين لأرباح النفط. كما يجسد التصوير السينمائي جماليات الفضاء التي يحتضن تلك الوقائع، حيث يلتقط اتساع المناظر الطبيعية في أوكلاهوما ويقارنها بالديكورات الداخلية الخانقة لمنازل أباطرة النفط، حيث يتم عقد الصفقات ودفن الأسرار.

ينسج سكورسيزي ببراعة شخصياته داخل نسيج تاريخي موسع. حيث تتكشف المأساة عبر عيون إرنست بوركهارت (دي كابريو)، وهو محارب قديم انجذب إلى عالم أوسيدج بدافع الحب، ومولي بوركهارت (ليلي جلادستون)، امرأة من أوسيدج أصبحت عائلتها هدفًا لأطماع الجشعين، حيث بدت علاقتهما كشهادة على طاقة ومرونة الحب في مواجهة الشدائد وتذكير مؤلم بالعقبات التي لا يمكن التغلب عليها والتي واجهتها مجتمعات السكان الأصليين في سعيها لتحقيق العدالة.

“قتلة زهرة القمر” لا يخجلون من وحشية الجرائم التي يرتكبونها. وكأن العنف غريزة تكوينية في تصرفاتهم، وهذا هو ما يستظهره الفيلم على وجه التحديد، حيث يشرّح الفساد المنهجي بدقة متناهية، ويفضح الآلية التي تتسهل بموجبها جرائم القتل في أوسيدج. كما يكشف التواطؤ بين أباطرة النفط الأقوياء، ومسؤولي إنفاذ القانون، ليدين النظام الذي تورط بأكمله في إعطاء الأولوية للمال والسلطة على حساب حياة البشر. ليقدم صورة بانورامية موجعة للتكلفة البشرية للجشع والعنصرية التي تحملها شعب أوسيدج بقوة ومرونة فائقة. فالنفط الذي يمثل رمزًا قويًا في سياق الفيلم، والذي كان يُنظر إليه كنعمة لشعب أوسيدج، تحول إلى لعنة ولدت العنف، كما استنطقت سؤالًا على درجة من الأهمية حول الكلفة الأخلاقية لاستخراج الموارد الطبيعية.

لا يتجاهل الفيلم جهود مكتب التحقيقات الفيدرالي لمكافحة الفساد.وبقدر ما يُظهر عيوبها يبين إصرارها وتصميمها على إحقاق الحق، على الرغم من أن الفيلم يتجنب الإجابات السهلة، ويترك المشاهدين يفكرون في العلاقة المعقدة بين السلطة والعدالة والبحث عن الحقيقة. في الوقت الذي يفصح فيه عن المعاناة الهائلة لشعب أوسيدج، ويحتفل بروحهم التي لا تتزعزع، ممثلة في مولي بوركهارت كرمز للقوة والمرونة، التي تناضل من أجل العدالة لعائلتها ومجتمعها. كما تكرس شجاعتها وإيمانها الراسخ لمواجهة الصعاب التي تلهم مجتمعها والمشاهدين على حد سواء بصيصًا من الأمل وسط الظلام.

كعادته، يقدم سكورسيزي فيلمًا طويلًا وبطيئًا، إلا أن ذلك البطء هو الذي يسمح للسرد بالتنفس، كما يسمح للموضوع بأن يردد صداه ويصيب أهدافه. حيث تم تصميم كل مشهد بدقة، الأمر الذي خلق إحساسًا بالرهبة والترقب بلغ ذروته في خاتمة قوية ومؤثرة. فمن خلال إعادة بناء الأحداث المحيطة بجرائم القتل في أوسيدج أثار سكورسيزي أسئلة حيوية حول الوقائع التاريخية. كما ورط المشاهدين لفحص فهمهم للعدالة والتشكيك في فعالية المؤسسات المكلفة بدعم القانون. وذلك عبر عدسة نقدية فاحصة تحث على التفكير وتدعو الجماهير إلى المشاركة في محادثات هادفة حول الإنصاف التاريخي.

“قتلة زهرة القمر” ليست مجرد دراما تاريخية. إنه استكشاف متعدد الطبقات للجشع والفساد والروح الإنسانية الوثابة، وهو تذكير قوي بالنضال المستمر من أجل العدالة والمساواة. وهو فيلم يدفع إلى التفكير النقدي في الهياكل المجتمعية، والمظالم التاريخية، والسعي إلى الحقيقة والمساءلة. ولذلك يبقى أثره لفترة طويلة بعد الانتهاء من مشاهدته، مما يدفع المشاهد إلى التفكير في الماضي ويتحداه لمواجهة الحقائق غير المريحة حول الحاضر. وهو بهذا العرض الجارح يتجاوز فكرة الترفيه والإمتاع ليتحول إلى قطعة حيوية من الفن السينمائي الذي يتطلب المشاهدة والمناقشة. لأنه جمال مؤلم يدفع المشاهد للتحديق في الآثار الأخلاقية لأفعال البشر.

اقرأ أيضا: «قتلة زهرة القمر» تحيّة للسكان الأصليين

شارك هذا المنشور