فاصلة

مراجعات

«قائمة شندلر»… طقوس «الفُرجَة» على المآسي

Reading Time: 4 minutes

ملأ “قائمة شندلر” Schindler’s list لستيفن سبيلبرغ الدنيا، وشغل الناس عند بدء عرضه السينمائي في 1993.

هذا عملٌ تجتمع فيه شروط “الفيلم – الحدث” الأربعة بمفهوم الباحثة ديانا غونزاليز دولسير؛ فالفيلم لاقى نجاحًا جماهيريًا كبيرًا (فاقت مداخيله 322 مليون دولار) وحاز شبه إجماع نقدي، وخلق جدلًا سياسيًا، وأضحى مرجعًا في الصناعة، علاوة على أنه يمتلك مقومات جمالية معتبرة. لكن، اليوم بعد مضي 30 عامًا، ألا يبدو فيلم سبيلبرغ الطويل العاشر مبالغًا في تقديره؟ ألم يتقادم بشكل سيء، صار من الصعب معه تحمّل عناء دقائقه الـ189 بالنسبة لمن سبقت له مشاهدته؟ ثم ألا تبدو اليوم محقّةً الأصواتُ التي نشزت عن كورال المدح المرافق لخروجه، لتبرز تناقضاته الأخلاقية وتمسحه بمأساة إنسانية لا تُتصوّر فظاعتها لتحقيق فرجة واستعراض مبتذل؟

تشغيل الفيديو

جدل سينمائي أم أيديولوجي؟

تحكي قصة الفيلم المقتبسة عن كتاب للأسترالي توماس كينيلّي، المستوحى بدوره من أحداث واقعية، مسار رجل الأعمال الألماني أوسكار شندلر الذي أنقذ 1100 يهودي بولندي من المحرقة بتشغيلهم في مصنعه أثناء الحرب العالمية الثانية.

ينأى الأسود والأبيض الذي صُوّر به الفيلم بإدارة يانوس كامينسكي إلى حدّ ما بأحداث الفيلم عن حدود الزمان والمكان، ويخلق نوعًا من التجريد يطمس التفاصيل لفائدة التركيز على الطرح الأساسي: إبراز محنة اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية انطلاقًا من مصير من نجوا من المحرقة بفضل تضحيات رجل أعمال ألماني.

كان ترك شخصية شندلر ودوافعها مبهمة إلى النهاية من بين أفضل اختيارات السيناريو (من كتابة السيناريست البارع ستيفن زيليان)، إذ لا يشهر في وجوهنا نيته إنقاذ اليهود منذ البداية، بل يبدو هذا المسعى الإنساني عارضًا أمام بحثه عن معاقرة الكحول الفاخر برفقة ضباط القوات النازية الخاصة SS ومضاجعة الفاتنات، ولا يتشرّب الجانب الأخلاقي لسعيه إلا شيئًا فشيئًا، مع تطوّر الأحداث، إلى أن ينتحب في أحضان محاسبه إسحاق شتيرن (بن كينغسلي) متحسّرًا على عدم قدرته على إنقاذ المزيد من الأرواح في المشهد الختامي. 

قائمة شندلر

قلة – منهم ستانلي كوبريك- تجرأت على إعلان عدم تقديرها للفيلم، واعتبرته يختصر المحرقة النازية في قصة بضع مئات نجوا منها متجاهلًا ملايين من اليهود وغير اليهود ممن قضوا فيهاـ فكيف لا نقرأ هذا الاختيار السردي في ضوء حاجة “البلوكباستر” الهوليوودي للنهايات السعيدة؟ 

ربما يكون الرد أن صناع الفيلم لم يدّعوا تطرّقه للمحرقة بشكل عام؛ إلا أن الخطاب الدعائي المتضخم الذي رافق عرض الفيلم يقول عكس ذلك، إذ يقرن “قائمة شندلر” بواجب إحياء ذاكرة المحرقة وبعثها من النسيان، وتفنيد ادعاءات منكريها. بل إن ستيفن سبيلبرغ لم يتردّد أثناء حملته الترويجية للفيلم في تأكيد أن رغبته في إنجاز الفيلم حُسمت بالأساس انطلاقًا من عودته لاعتناق اليهودية، فيما ذهبت تصريحات ميلا وبولديك فيفّيربغ، الأمريكيان من أصل بولندي، والناجيان بفضل أوسكار شيندلر، إلى حدّ قول أن شندلر “اختاره الله” لينجيهم. لنتخيّل قليلاَ ردود الفعل لو أنّ تصريحات كهذه صدرت عن مخرج أو مساهمين في فيلم بخصوص الديانة المسيحية أو الإسلامية. 

بطلٌ أمريكي

لا يكفّ شندلر في الفيلم عن إشهار نقوده بكل أشكالها: أوراق، شيكات، جواهر ثمينة، بل إننا نكتشف نقوده قبل أن نرى وجهه في المشاهد الافتتاحية. ولعلّ من أبرز الانتقادات الموجّهة للفيلم، تلك الصادرة عن الفيلسوف الفرنسي روبير ريديكير الذي يصف شندلر بـ”البطل الأمريكي الصرف” لأنه يخلق بطولته انطلاقًا من سلطة المال المنقذ، واصفًا سبيلبرغ بـ”أول من يبحث عن غفران أوشفيتز انطلاقًا من المال، إلى درجة أنّنا نتساءل إن لم يكن المال هو البطل الحقيقي للفيلم”.

يذهب الباحث التاريخي الإسرائيلي شلومو ساند بدوره في منحى القراءة الأيديولوجية للفيلم حين يُلمِح إلى أن “تصوّر المنقذ الطيب في شكل رجل أعمال رأسمالي شجاع يغدق العطاء للنازيين، يمثل أحد مفاتيح نجاح الفيلم. ما ينبئ، ليس فقط بالحلم المسيطر على سبيلبرغ، بل الواقع في قلب الإيديولوجيا الأمريكية والغربية السائدة في التسعينيات”.  

إغراءات “أوشفيتز بارك” 

يثير تزامن إعداد سبيلبرغ للفيلم مع النجاح الباهر الذي تحقق لأول إصدار من سلسلة أفلامه “متنزه الفقاريات العظمى” Jurassic Park المعروف بالعربية باسم “حديقة الديناصورات. هذا التزامن أثار أسئلة حول القواسم المشتركة بين الفيلمين، أو آثار الآلة الاستعراضية الهوليوودية، التي يعد مخرج Jaws “الفك المفترس” و”قادم من النجوم” «E.T» أحد فرسانها. 

في “قائمة شندلر” ذي الحساسية البالغة، كونه يتطرق لمأساة إنسانية فظيعة إلى درجة أنها بقيت لعقود عصية عن التمثّل التخييلي، وظلت أهم الأعمال السينمائية التي حاولت استجلاء حقيقتها – العصية على الإمساك بها- تنتمي إلى جنس وثائقي التجريب، كما في رائعة آلان رينيه “ليل وضباب” Night and fog (1956) أو تحفة وثائقي الشهادات المرجعية “محرقة” (Shoah (1985 لكلود لانزمان، وكان هذا الأخير من أشد المناوئين لقائمة شندلر عند خروجه، معتبرًا أنه جعل من المحرقة ديكورًا لفائدة ميلودراما تبحث عن “التطهر من الذنب” عبر استدرار الدموع بقصة تتطرق لحالة خاصة، بينما يرفض فيلمه Shoah أي فرضية للبكاء، مؤثرًا مواجهة “شمس الهولوكوست السوداء” بنفس جماعي.

مشهدان من الفيلم يطرحان على الخصوص إشكالات أخلاقية. الأول يصور نساء يهوديات يجبرن على نزع ملابسهن، ويُقتَدن قسرًا من طرف الجنود إلى قاعة الاستحمام. يطيل سبيلبرغ أمد الترقب (وفيًا للوصفة الهيتشكوكية) عبر تمطيط الانتظار والتركيز على علامات الذعر البادية على الوجوه، وتُغلّق الأبواب ثمّ تُطفأ الأضواء، فتتعالى صرخات الهلع قبل أن يتحول المشهد 180 درجة حين تدرك النّسوة أن ما ينزل من الرشاشات ليس غازًا قاتلًا، بل ماءًا زلالًا. مشهد لا غبار عليه من وجهة نظر الفعالية والتحكم في التقنية، لكن هل من الأخلاقي أن يُنجَز تشويقٌ انطلاقًا من المآسي؟

لنتذكر مقالة جاك ريفيت المنشورة في 1961 بعنوان “حول الدّناءة”، التي شكلت أحد التعاليم المقدّسة للموجة الفرنسية الجديدة، حين تطرق لمشهد مصرع فتاة يهودية منتحرة بالارتماء على الأسلاك الكهربائية في “كابو” للإيطالي جيلو بونتيكورفو، واصفًا حركة الكاميرا لتأطير يد إيمانويل ريفا الملتصقة بالسلك المكهرب بلفظ الدّناءة، فأصبحت المقالة شعارًا مفاده أن تقنيات السينما ليست مجرّد حركات تستهدف التزيين والإثارة، بل لغة تترتّب عليها تعابير جمالية وأخلاقية، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار.

المشهد الثاني هو الختامي. بقفزة في الزمن تختزل 50 عامًا، ينتقل الفيلم من مشهد بالأسود والأبيض لجندي سوفياتي يدل الناجين على مدينة قريبة، إلى الحاضر بالألوان حيث تجمّع مئات من المنتمين لقائمة شندلر والمنحدرين منهم، ليقدموا بالتوالي تحية لروح منقذهم أمام قبره بالقدس. مشهد قد يعطي الانطباع بارتباط بين دولة إسرائيل وذاكرة الهولوكوست، ما يطرح أسئلة عديدة حول موقف مخرج لم يأخذ أي مسافة من سياسة إسرائيلية تنبني على الاحتلال وأيديولوجيا التفرقة العنصرية، وتتعارض كليًا مع طرح الفيلم الإنساني ونبذه للتمييز على أساس العرق أو الدين.

تناقضٌ جوهري لعله يؤكد الفشل الذي يحكم أي تمثل للهولوكوست بنوايا استعراضية، خصوصًا أن الأفلام التي خرجت في حيز العقود الثلاث التي تفصلنا عن “قائمة شندلر” مثل “ابن شاؤول” Son of Saul (2015) للمجري لازلو نيمس، ومؤخرًا “منطقة الاهتمام” Zone of interest (2023) لجوناثان غليزر، وُفِّقت في التقاط قبس من “شمس الهولوكوست السوداء” بفضل الجنوح إلى اختيارات جمالية راديكالية، تمنح للاشتغال الخلاق على الشريط الصوتي مكانة قصوى، ما يترك للمشاهد حيّزًا يحترم ذكاءه لتخيل الفظاعة وتمثّلها من دون أي ابتذال للمآسي لدواعي الفُرجة.  

اقرأ أيضا: «أفاتار»… أن تخلق عالمًا من ورق

شارك هذا المنشور