فاصلة

مقالات

في انتظار «المجهولة».. نظرة على سينما هيفاء المنصور

Reading Time: 6 minutes

 لا نعرف حتى الآن تفاصيل كثيرة حول المشروع السينمائي المقبل للسينمائية السعودية هيفاء المنصور، سوى اسمه «المجهولة»، والذي يتم تصويره حاليا في منطقة العلا، ومن بطولة ميلا  الزهراني، بطلة فيلمها «المرشحة المثالية»، لكننا نعرف وتبعًا للأخبار المتداولة أن السينمائية الطموح منذ بداياتها في عالم الشاشة الكبيرة منذ 20 عامًا تقريبًا، أصبحت واحدة من المبدعات النادرات اللواتي خضن اللعبة السينمائية في وطنها في وقت كانت فيه فرص نمو وتطور الفن السابع نادرة وتكاد تكون منعدمة، على العكس من الوضع الحالي.

تمكنت المنصور من إخراج افلامها للنور في وقت كانت التقاليد شديدة التحفظ حتى في دول الجوار تئد أحلام كثير من محبي السينما وتحاصر من أطلوا على ذلك الفن في وقت مبكر، وواجهت صعوبات تفوق حتى ما واجهه أقرانها من مبدعي السينما المبكرين إذ كان للنساء بالكاد أن يحلمن بأن تكون لهن فرص في هذا المجال. 

هيفاء المنصور

طبعا لن نعود هنا إلى تلك السنوات المكفهرة من الناحية السينمائية – بين نواح أخرى -، لكننا لا بد من أن نشير إلى أن هيفاء المنصور التي كانت حينها في عز صباها، جرُأت على ما لم تكن رفيقات لها يحلمن به، ومع أن فرص اتباع حلم سينمائي كانت تبدو عصية؛ بل مستحيلة. لكنها عرفت كيف تتسلل إلى حلمها تدريجيًّا لتصل إلى سبق تقديم أول فيلم روائي سعودي حقيقي. وكان ذلك في العام 2012 حين ظهر ومما يشبه العدم تقريبا فيلمها الذي حمل عنوانا هو اسم علم أنثوي على أية حال: “وجدة”، ليكون ليس فقط أول فيلم روائي طويل لمخرجة سعودية، بل يمكن النظر إليه باعتباره أول فيلم روائي متكامل فنيًا يتحقق في السعودية. 

ومع أن هيفاء المنصور لم تصر أبدا على أن توصّف بكونها رائدة حقيقية للسينما الروائية السعودية، ولا سيما لدى إنجاز وعرض “وجدة”، فهي بعد كل شيء  أصغر عمرًا من أن تنوء تحت حمل ذلك اللقب، فظلت معتكفة عن حمل ما يماثله، حتى حين استحقت اللقب كرائدة مرتين أخريين على الأقل: مرة حين قدمت كمبدعة سعودية أول فيلم عالمي بالمعنى الحقيقي للكلمة عن فصول من حياة الكاتبة الإنجليزية ماري شيلي صاحبة رواية “فرانكشتاين”، وزوجة الشاعر بيرسي شيلي وصديقة اللورد بايرون. 

وعلى الرغم من أن هذا الفيلم لم يعرض على نحو لائق في العالم العربي، إلا أنه اعتُبر واحدًا من أبرز أفلام السيرة الذاتية وقت عرضه.

 المرة الثانية، جاءت حين عادت للسعودية في ظل التغيرات  الاجتماعية الناعمة التي تشهدها السعودية الآن لتقدم فيلمها الروائي “المرشحة المثالية”، الذي سنعود إليه هو الآخر بعد سطور.

كان ذلك في العام 2018 حين راحت هيفاء، مستفيدة من السياسات الانفتاحية الجديدة التي أتاحت للمرأة السعودية تحقيق كثير من تطلعاتها وحقوقها.

في ذلك الفيلم الذي كان من شأنه أن يجعل هيفاء المنصور رائدة للمرة الثالثة، لم تهتم السينمائية الشابة بالألقاب والتوقف عندها. كان كل همها أن تعود من جديد إلى موضوعها الأثير: مكانة المرأة في مجتمعها السعودي، وهي التي لم تبتعد عن سبر تلك المكانة حتى في مجتمع بعيد جدًا عن المجتمع السعودي كما في فيلمها السابق “ماري شيلي” الذي عومل من النقاد باعتباره فيلمًا نسويًّا، في مرحلة راحت فيها الأفلام النسوية تتكاثر وتتجذر في العالمين السينمائي وغير السينمائي، على ضوء وعي جديد تواكب مع ما راحت هوليوود والسينما الأوروبية تعيشه من تطورات لصالح المرأة.

والحقيقة أن في إمكاننا أن نتحدث هنا أيضًا، وعلى صعيد عالمي، عن ريادة المنصور؛ إلا أنها هي نفسها آثرت أن تبتعد عن لعبة الألقاب والتصنيفات. فيه لا تنظر إلى خوض اللعبة السينمائية كساحة لتحقيق الألقاب؛ بل تتمسك بإبداع يسمو على تلك التصنيفات والتوظيفات.

هيفاء المنصور

الواقع أن هيفاء المنصور كانت إلى عشر سنوات مضت تعتبر السينمائية الأنثى السعودية الوحيدة التي قدمت فيلمًا روائيًا طويلًا، كان هو الثاني من نوعه لسينمائي سعودي بعد “ظلال الصمت” لعبد الله المحيسن. فكان “وجدة” بعد ظهوره المدوي وعرضه الأول بمهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي في عام إنجازه، ثم جولته المحتفى بها في عديد من المهرجانات العالمية، فرصة لفتح نقاش جاد عن مساهمة المرأة الخليجية بصورة عامة، والسعودية بصورة خاصة، في انبعاث سينما جادة واجتماعية في هذه المنطقة من العالم.

هيفاء المنصور

لكن هيفاء المنصور كانت قد عرفت في الساحة السينمائية العربية قبل “وجدة” بما يزيد عن ست سنوات، وشاركت في عدد لا بأس به من المهرجانات العالمية، حين ظهرت العام 2005 في مسابقة “فيلم من الإمارات” لتعرض فيلمين قصيرين هما “أنا والآخر” (15 دقيقة) و”من؟” (7 دقائق)، ثم جاء فيلمها “الرحيل المر” (12 دقيقة) الذي لفت الأنظار حقًا.

ونعرف على أية حال، أن هيفاء المنصور ولدت العام 1973، وهي ابنة للشاعر السعودي النجدي عبد الرحمن المنصور، رائد الحداثة الشعرية في السعودية. وأنها درست الأدب الإنكليزي المقارن في الجامعة الأميركية بالقاهرة.

 وفي مصر، شاركت في العام 2005 الذي شهد بداياتها بفيلم “نساء بلا ظل” الذي اعتبر من أهم أفلامها حتى ذلك الحين، الى درجة أن عددًا من النقاد رأوا فيه نوعًا من الجرأة في التمرد على المجتمع، لكنها لم توافق على هذا الرأي يومها وكان ردها على هؤلاء: “… لا، أنا لم أتمرد على مجتمعي”، مشيرة الى أن كل ما في الأمر هو أن تجربتها مع الأفلام القصيرة إنما تسعى “الى التعبير عن الواقع الراهن” مشيرة الى أنها كانت في غاية السعادة عندما أثار “نساء بلا ظل” “جدلًا عند عرضه، وبخاصة أن الناس انقسموا تجاهه بين مؤيد ومعارض له، مؤكدة ان “الاختلاف حالة صحية، طالما أن الفيلم جعل الناس تتكلم عن قضاياها بشكل صحيح وصريح”.

وفي مرحلة تالية من مسارها المهني، حققت هيفاء المنصور، فيلمًا قصيرًا تاليًا هو “وطن 551″، بدا أقرب إلى العمل السوريالي، حيث يدور موضوعه من حول عدة أشخاص يجدون أنفسهم عالقين وسط صحراء تهب رياحها عليهم وتستعد لابتلاعهم فيما هم يتجادلون في قضايا فكرية من الصعب العثور على أي علاقة لها بحالهم التي يتخبطون فيها. وكان واضحًا مدى الرمزية في هذا الموضوع الذي تميزت فيه لغة سينمائية لافتة ومتقشفة.

ومن بعد هذا الفيلم، حققت المنصور نقلتها الهامة مقدمة فيلمها الروائي الطويل الأول، والذي إذا اعتبرنا أن فيلم “ظلال الصمت” لعبد الله المحيسن، على رغم سعودية إنتاجه ومخرجه، يبقى “غريبًا عن المجتمع السعودي” طالما أنه يعالج موضوعًا أكثر عمومية ولا يحمل خصوصية سعودية، بممثلين سوريين وغير سوريين، وتم تصويره في خارج السعودية.

من هنا يمكننا أن نعتبر أن “وجدة” لهيفاء المنصور، هو الفيلم السعودي  الروائي الطويل الأول بالمعنى الحرفي للكلمة.

يتناول “وجدة” حكاية الصبية التي أعارت الفيلم اسمها، والتي تخوض مسابقة حفظ القرآن الكريم في مدرستها على أمل أن تتمكن بفضل الجائزة الموعودة من شراء دراجة رياضية. 

ولقد كان من الواضح أن أهمية الفيلم تتجاوز، ومن بعيد، هذا الموضوع البسيط وذي النهاية السعيدة. لأن المسألة هنا هي “الكيفية التي حركت بها المخرجة كل عناصر الفيلم الحكائية لتقول هذا الفيلم”، أو بكلمات أخرى لـ “تستنطق المسكوت عنه في المجتمع” من دون شعارات صاخبة أو مواقف تمرد طفولية من النوع الذي اعتاد أن يدمر فيلمًا من هذا النوع، مسبغًا عليه نخبوية مزيفة وتمردية اجتماعية غير مجدية. والأهم من هذا، دون استفزاز مجتمع كان بالكاد يخرج من تقليديته المحافظة ليتقبل، أصلًا، فكرة الصورة نفسها، ثم الصورة السينمائية، فصورة المرأة، حتى صورة تلتقطها امرأة. 

فهيفاء المنصور كان يمكنها، مثلًا أن تملأ فيلمها بالخطابات المتعالية المغرقة في الجدل الفكري، وأن تصوره خارج السعودية فيصفَّق له بوصفه “فيلمًا معارضًا” وينال نجاحًا كبيرًا. لكنها آثرت ألا تسلك هذا الطريق، جاعلة من “وجدة” فيلمًا سعوديًا حقيقيًا. وفي يقيننا أن هذا جاء في مصلحة الفيلم، ومجالًا لربطه الحقيقي بالسينما المنشودة.

وكما أشرنا أعلاه، قدمت المنصور بعد “وجدة” فيلمين أحدهما هو”ماري شيلي” ذو الموضوع والإنتاج الأوروبيين والذي يتحدث عن الكاتبة ماري شيلي مؤلفة رواية “فرانكشتاين” أوائل القرن التاسع عشر وعلاقتها بزوجها الشاعر بيرسي شيلي وصديقه اللورد بايرون. وقد نال نجاحا لابأس به، غير أنه طرح سؤالا حول دافع المنصور لخوض موضوع كهذا “في وقت يمتلئ فيه مجتمع بلادها بالمواضيع وباتت السعودية منفتحة على السينما كما باتت هيفاء المنصور أيقونة حقيقية في هذا البلد؟”. 

والحقيقة أن هيفاء أتت بإجابة عملية على هذا السؤال وذلك من خلال فيلم تال حققته في السعودية وعن السعودية، وتحديدًا عن امرأة سعودية تريد أن تخوض الانتخابات البلدية فتجابه بتسخيف من المجتمع الذكوري، برجاله ونسائه معًا، وهو فيلم “المرشحة المثالية”.

والحال أن هذه السينمائية المتمكنة من فنها قدمت هنا فيلمًا مميزًا يمكن أن تعتبره صرخة لصالح المرأة السعودية، وأيضًا صرخة لصالح السينما السعودية والدور العظيم الذي يمكنها أن تلعبه في حاضر هذا البلد ومستقبله. وربما أيضا إرهاصًا بتلك النهضة التي عرفتها السينما السعودية من خلال مجموعة من الأفلام المدهشة التي جعلت كثرًا يتساءلون – في نوع من تمنّ لا يزال قائمًا عما إذا كان لهذه السينما المميزة أن تبعد الحراك السينمائي السعودي عن الارتباك الذي تسببه له زحمة المهرجانات في هذا البلد، كيلا يكون مصيره مشابهًا لمصائر حراكات سينمائية خليجية أخرى سبقته ثم خبت دون أن تترك أية ذكرى طيبة لدى أحد؟ ودون أن تترك أملًا في انبعاث صناعة سينمائية حقيقية في البلدان المعنية

اقرأ ايضا: «ستموت في العشرين»… جماليات الانتقال من حبر القصة إلى ضوء الفيلم

شارك هذا المنشور