قال كايدن كوتارد: «ما كان بالنسبة إليك مستقبلًا مثيرًا وغامضًا؛ هو الآن وراءك، لقد عشت، فهمت، وخاب أملك. تدرك الآن أنك لست مميزًا، لقد جاهدت في الوجود وتنجرف الآن بصمت للخروج منه، هذه هي تجربة الجميع».
كايدن، رجل عجوز، يمشي متكئًا على عصا، وعيناه ترمشان بضعف خلف نظاراته السميكة. لم يتساقط شعره كله بعد، لكنه يتدلى بشكل فوضوي في خصلات بيضاء. يجرّ نفسه وحيدًا ومنهكًا من الحياة والفن الذي ضحّى لأجله طوال حياته تقريبًا. هذا العجوز هو فيليب سيمور هوفمان (1967 – 2014)، الذي لم يكبر كما سمح له فيلم تشارلي كوفمان «سينيكدُكي، نيويورك» (2008 / Synecdoche New York). لكنه كان قادرًا من خلال السينما – على الأقل– على اختبار الحياة الطويلة التي حُرم منها في الواقع. في الفيلم، يلعب هوفمان دور مخرج يريد أن ينقل حياته ومدينته إلى المسرح كدراما ضخمة، ويصبح ضائعًا بشكل متزايد في المدينة التي بناها. لم نعد نعرف تقريبًا أين تنتهي الحياة ويبدأ الفن. العظيم فيليب سيمور هوفمان على الشاشة كفنان مسنّ، مشهد يغرقك فجأة في الحزن، لأنّنا نرى نسخة من المستقبل المحتمل، الذي تحطّم فجأة بوفاة هوفمان عن عمر 46 عامًا.
سواء قام فيليب سيمور هوفمان بمضايقة مات ديمون في فيلم «السيد ريبلي الموهوب» (1999، The Talented Mr. Ripley»، أو تعقب إدوارد نورتون كمراسل في فيلم «التنين الأحمر» (2002، Red Dragon)، أو تتبع الأعاصير مع فريق من علماء الأرصاد الجوية في فيلم «إعصار» (1996، Twister)، أو تورّط مع آدم ساندلر، الذي خاض معه حرفيًا مبارزة صراخ على الهاتف في «حب مترنح» (2002، Punch-Drunk Love)، لقد كان دائمًا يسيطر على المشهد. عادةً ما كان هذا الرجل السمين القصير ذو البشرة الشاحبة والنمش والشعر الأحمر الخفيف، يترك الأدوار الرئيسية لزملائه، لكن من دونه لكانوا أكثر فقرًا.
عندما يؤدي فيليب سيمور هوفمان، هناك دائمًا إفراط فاحش، استغل بنيته الجسدية بلا خجل، وحوّلها إلى حدث. نرى هذا بالفعل في فيلم «سعادة» (1998، Happiness)، حيث يضايق عشرات النساء عبر الهاتف. في مشهد واحد، كثّف بؤس الوجود الإنساني بأكمله. بجسد شاحب وممتلئ وأكتاف متدلية، نظرة منخفضة، كما لو أنه انهار على نفسه، يجلس على حافة السرير بملابسه الداخلية، ودليل الهاتف على فخذه، يتصبّب عرقًا ويلهث عبر الهاتف حتى يتحول لونه إلى الأصفر. كانت مهارة هوفمان تتمثل في إثارة التعاطف العميق بسرعة مع هذا الرجل الوحيد الحزين، إلى جانب الاشمئزاز التلقائي الذي يثيره هذا المشهد. لقد كان هوفمان خاليًا من الغرور، مع غياب لضبط النفس، يقترب من الكشف عن الذات على الشاشة. لقد لعب دور الخاسر البائس، المنعزل الخجول، المتفاخر المغرور، المنحرف، المجرم، المتغطرس، المفكر اليميني الانتهازي.
«الابتسامة مصدر كل شيء»، يقولها هوفمان في دور لانكستر دوت بصوته العميق والمهيمن في فيلم «المعلّم» (2012، The Master). يسيطر هوفمان على الفيلم، بهالة قاتمة أنيقة، بكاريزما تحيط المشاهد، ليقدم مضمومًا ثقيلًا نسبيًا كقائد جماعة تتبع أطروحاته وأفكاره، وفلسفته الدينية «اللانكسترية» المستحدثة، بأداء استثنائي وصوت يشبه الصرير قليلًا، يمكّنه من اللهث والرعد وفعل كل شيء بينهما.
في جميع أدوار هوفمان، هناك طبيعية فطرية في ما يفعله، طبيعية عبثية في مكان ما، تشبهه تمامًا. ثم بالطبع، هناك الوجه المضاد، بأنف زائف في «كابوتي» (2005، Capote)… دور تدرّب عليه ليلبس ثوب الكاتب الأميركي ترومان كابوتي. لقد كان هذا الفيلم انتصارًا للتحوّل المنهجي والثبات على الشاشة. نعم، استطاع هوفمان فعل ذلك. لم يكن يبدو نحيفًا في الفيلم، لكن يُقال إنه فقد عشرين كيلوغرامًا من أجل القيام بهذا الدور، وكان مذهلًا بما فيه الكفاية لنيل جائزة الأوسكار كأفضل ممثل.
هناك أمر مثير للاهتمام في هذه الجائزة التي حصل عليها مرةً واحدةً لدوره الأكثر رشاقة، أي عندما قام بترويض وتقييد جسده الجامح لمرة واحدة وفقًا لقواعد هوليوود التمثيلية. لكن بعيدًا عن هذا، في «كابوتي» كان أداء هوفمان في مكان مختلف، خارج الشاشة. الاتساق الذي يظهر به على الشاشة وبالعدسة المكبرة، هو بالضبط ما يحاول كل شخص إخفاءه في الحياة. في «كابوتي»، أظهر هوفمان الجوانب الخفية للشخصية الحقيقية، ونقاط ضعف الكاتب، وكانت هذه الطريقة الوحيدة لهوفمان ولنا كي نشعر من هو هذا الشخص حقًا، والتغلغل بعمق في نفسيته.
بعد سنة واحدة، في عام 2006، لعب هوفمان في الفيلم الرائج «مهمّة مستحيلة 3» دور خصم البطل إيثان هانت، أوّين دافيان عديم الضمير والبارد، الذي يحرّك خيوط الاجرام خلف الكواليس. لكن هذا الدور تركه في وضع صعب، لأنه ليس فيه عمق، فقط مشاعر حيوانية «هذا محبط بالنسبة لي كممثل». كان دوره في فيلم الأكشن مختلفًا، تمامًا كما في سلسلة أفلام «مباريات الجوع» (The Hunger Games)، مع عمق أكثر في الثاني. كان منزعجًا من فكرة أن المشاعر الوحيدة التي يحصل عليها المرء من الشخصية الشريرة هي الغضب والعنف، عندما لا يحصل على ما يريد. وهذا بالتحديد كان يفتقر إلى العمق من وجهة نظره. لعل ذلك هو السبب وراء تأثير شخوص هوفمان علينا، فهي مليئة بالذكاء والحساسية. قامت شخصياته المحرجة اجتماعيًا مرارًا بقفزة مترددة نحو الخبرة والحكمة التي لا تجرؤ على تحمّلها، وكانت النتيجة مؤلمة، أو مزعجة، أو مضحكة، أو مفيدة، أو سامة، لكنها دائمًا مثيرة.
من أقواله المفضلة أنّ «الناس ليسوا طبيعيين، لا أحد كذلك. لذلك، لا أستطيع لعب الأدوار العادية أيضًا». لذلك، استمر الممثل الأمريكي – الذي وُصِف ذات مرة بأنه «الممثل المساعد الأكثر ذكاءً في العالم»-، في تفضيل وتقديم الأفضل في لعب تلك الشخصيات التي لم تكن طبيعية تمامًا، وكان لا يزال قادرًا على نفخ الطبيعية فيها بكل وجهه وجسده وإيماءاته، وأعطى تلك الشخصيات الأكثر إثارة للشفقة كلّ التفهم والتعاطف.
بين شخوصه وأفلامه، حاول فيليب سيمور هوفمان حماية عائلته من الصحافة، وترك عمله يتحدث عن نفسه. لقد كان رجلًا عاديًا، متحفظًا، يعتقد أنه قادر على التعامل مع الإدمان الذي بدأ في الجامعة. قال لأصدقائه في اليوم الأخير الذي رأوه فيه على قيد الحياة: «أعلم أنني سأموت».
توفي عرضيًا بسبب «التسمم الحاد بالمخدرات المختلطة»، وعُثر على جثته عند الساعة 11:30 صباح يوم 2 فبراير 2014، في حمام إحدى شقق مانهاتن. كان يعيش بمفرده منذ ابتعاده عن شريكته المصممة ميمي أودونيل، وغادر منزل العائلة لحماية أطفاله الثلاثة من أن يكونوا شهودًا على نوبات مؤلمة. بدأ صراع هوفمان مع الإدمان في سن 22 عامًا. عندما تخرج في جامعة نيويورك دخل مركز إعادة التأهيل: «لقد جربت كل شيء في الجامعة، الكحول والمخدرات، أحببت كل ما يمكنني الحصول عليه، لكن بعد ذلك بدأت أشعر بالذعر بشأن ما سيحدث في حياتي».
بعد خروجه من مركز إعادة التأهيل، ركز على حياته المهنية، ولم ينتكس سوى بعد سنوات طويلة. في مقابلة أجريت معه قبل سنوات قليلة من وفاته، اعترف بمدى صعوبة التوقف عن تناول الكحول «لم يكن لديّ أي اهتمام بشرب الخمر باعتدال. أعتقد أن هذا هو ما أنا عليه». أعلن استقالته بحزن! أحد أصعب الأحداث التي واجهها، عندما اعترف عام 2013 لدائرته المقربة بأنه حقن الهيروين مرة أخرى، وأنه يعلم أنه سيفعل ذلك مرة أخرى.
بعد عشر سنوات على وفاته، نلاحظ مدى افتقادنا لهذا الوجه، والجسد، والصوت. حتى عندما أصبح هوفمان، لمرة واحدة غير قابلة للتمييز تقريبًا، تحت قناع العجوز في «سينيكدُكي، نيويورك». في نهاية الفيلم، ينظر الرجل المسنّ إلى حياته، إلى عدم جدوى الفن العظيم واللعين، الذي نما بشكل هائل فوق رأسه وعلى كتفيه على مرّ السنين. هو الآن يجلس يتأمّل فنه، في أيامه الأخيرة، وفي أذنه جهاز يتلقى من خلاله توجيهات مدير المسرح. التوجيه الأخير من غرفة التحكم هو مجرد كلمة واحدة: «متّ».
اقرأ أيضا: رعدة سينمائية في كآبة الشبط