نقرأ بشكل متكرر عن أفلام تحاكي تحفة مارتن سكورسيزي وبول شريدر «سائق التاكسي Taxi Driver» من إنتاج عام 1976، إذ تشترك معظم هذه الأفلام في محاولتها إعادة إنتاج شخصيات تشبه «ترافيس بيكل»، الشخصية التي لعبها روبرت دينيرو بأداء لا يُنسى، كان بيكل وحيدًا، مُحملًا بذكريات حرب فيتنام، ويشعر بحاجة هائلة لممارسة العنف كي يثبت قيمته كرجل في مجتمع فاسد.
في أول تجربة روائية للممثل البريطاني هاريس ديكنسون كمخرج «Urchin»، نرى دراسة شخصية عن رجل آخر هو «مايك»، لكن «مايك»، على عكس ترافيس، يجسد تحولات الذكورة من السبعينيات حتى اليوم؛ لا حرب، ولا رغبة في تغيير المجتمع، حتى لو كنا ندينه، يبقى العنف، وهذه المرة موجّه ضد الذات أولًا.
فاز الفيلم بجائزة الفيبريسي لأفضل فيلم في قسم «نظرة ما» في مهرجان كان لعام 2025، كما حصد فرانك ديلان جائزة أفضل ممثل من لجنة تحكيم «نظرة ما» عن دور البطولة في الفيلم.
عالم انعدام المأوى
يبدأ الفيلم بمشهد خارجي نتابع فيه «مايك» وهو يفيق من نومه في الشارع، شاب بلا مأوى يشبه عديدين من الذين نراهم يوميًا في الشوارع وتحت الكباري في المدن الكبرى، يتوجه «مايك» عقب ذلك إلى ميدان حيث يلتقي بصديقه الذي يبدو أنه سرق محفظته، يتشاجران، يضربان بعضهما البعض، يجد «مايك» محفظته بالفعل، لكنها دون نقود.
يعطف على مايك شاب بريطاني أسمر البشرة، يحضر له شيئًا ليشربه، ثم يعرض عليه أن يشترى له طعامًا أيضًا، يمشي الرجلان في اتجاه المطعم الذي يريد مايك أن يأكل منه، ثم تحدث المفاجأة الأولى في الفيلم.
يصبح عالم من هم بلا مأوى مساحة للتعرف على شخصية «مايك»، شاب يبدو أنه ليس في وعيه، جائع، غير مكترث، ومستعد لارتكاب أفعال عنيفة للحصول على ما يريد، يبدو السبب الأوضح وراء هذا كله هو الإدمان.

الإدمان كإيذاء للنفس
تقديم عمل سينمائي عن الإدمان يبقى محملًا دائما بصور نمطية كثيرة عن المدمن على الشاشة الكبيرة، أداء حركي مبالغ فيه، وأفعال لا تفسير لها، هنا على العكس يقدم فرانك ديلان، تحت إدارة هاريس ديكنسون، أداء أكثر بساطة وأكثر عمقًا، مايك رجل هش، صغير في السن، يدفعك للتعاطف معه رغم كل ما يقوم به من خيارات خاطئة، لأنه يبدو معذبًا بالفعل بعد أن يتخذ كل منها.
يصبح جوهر الإدمان هنا هو فقدان القدرة على السيطرة على النفس، فقدان القدرة على التوقف عن التعاطي رغم إدراكك أنه سوف يدمرك، يبدو التعاطي في الفيلم وكأنه نوعان، نوع من أجل الاحتفال، نراه حينما يتعرف مايك على فتاة فرنسية تصبح بوابته لعالم الهيبي، حيث تعاطي الـ (LSD) جزء من طقس تأملي واحتفالات مع الطبيعة والفن، ونوع آخر هو التعاطي وحيدًا، غاضبًا وحزينًا في غرف مغلقة، وهو هنا كطقس مكتمل لإيذاء النفس.
لغة بصرية بين عالمين
يبني ديكنسون لغته البصرية في الفيلم على استخدام متكرر لكادرات قريبة «كلوز أب Close-up» على وجه «مايك»، ثم يستخدم القطع لجعل مشاهده يكمل الفراغات، حينما يلتقي «مايك» بأحد من مارس ضدهم العنف، يواجهه الرجل بأنه قضى الأيام التالية وهو غير قادر على رؤية ابنته التي حظيت بعيد ميلادها، لأنه لم يرد اخافتها بجروح وجهه، يبدو «مايك» وكأنه على حافة الوصول لنوبة هلع، لكن ديكنسون يقطع بشكل مفاجئ ليجعلنا نتخيل ما حدث.
تبدو لغة الفيلم البصرية وكأنها لفيلم أوروبي قليل التكلفة، بسيط وغير متكلف، ثم ينتقل ديكنسون إلى عالم بصري خيالي بين الفينة والأخرى، حيث تبدو المخدرات بوابة لهذا العالم، وحتى تسجيلات الاسترخاء الصوتية التي يسمعها مايك كنوع من التنمية البشرية، يبحث معها عن مكانه المتخيل الآمن، لكنه في النهاية يغرق فيه.

العنف والذكورة الهشة
يقدم «Urchin» في النهاية بورتريهًا يحمل زوايا ورتوشًا غير مصقولة، تبدو هكذا هذه الزوايا أصيلة ومعبرة عن مخرج يصنع عمله الأول، فيلم يحمل تعاطف مع بطله، لا يتحدث عنه كما تفعل العديد من الأفلام، لكن يتحدث بصوته، رجل حساس وهش، غير قادر على كسر حلقة مغلقة من إيذاء النفس، تصبح مأساته مرآة لزمنه، لعالمنا الآن.
يجد مايك الحب والتقبل والمساعدة من معظم من يقتربوا منه خلال الفيلم، غالبيتهم مهاجرين أو ذوي أصول مهاجرة، تصبح هذه التفصيلة جزءًا من طبقة يضعها ديكنسون بشكل رحيم وربما حتى غير واعٍ داخل عالم الفيلم.
يحفظ محبو السينما المشهد الأيقوني لترافيس بيكل وهو نصف عارٍ، يخاطب نفسه في المرآة: «هل تخاطبني؟!»، ثم يظهر مسدسه بسرعة ومفاجأة، معبرًا عن ذكورة سامة لا تسمح للرجل بإظهار ضعفه، ليصبح العنف المسلح وسيلة للتنفيس عن حزنه. سيتذكر محبو السينما أيضًا مايك، الرجل الهش، وهو نصف عارٍ، يقف أمام مرآته في غرفة مظلمة، يسمع تسجيلًا صوتيًا يخبره أنه شخص مميز، ويكرر ذلك.
اقرأ أيضا: كل ما تريد معرفته عن أفلام مسابقة كان 78