تتّسم أعمال المخرج البولندي الشّهير كريستوف كيشلوفسكي ببصمةٍ فنيةٍ مميزة. فالرّجل له أسلوبه الشاعريّ الخاصّ الذي يتبدّى واضحاً في مراحل أيّ عملٍ فني يُبدعه؛ بدءً من انتقاء الشخصيات، والصّورة التي يُقدّمها، ومروراً بعمليات المونتاج والموسيقى المرافقة. أما لجهة انتقائه للممثلين، فمن السّهل لأي متابع أن يلحظ مدى اتقانه في ذلك؛ انتقاءاتٌ مدروسةٌ في أفلامه جميعها، وممثلون يؤدون أدوارهم بحرفيةٍ ومهنيةٍ عالية، فيرتدون عباءة أدوارهم ويتقمّصونها دونما تصنّعٍ أو تكلّف. وقد يصل بنا الحدّ إلى تصديق مشاهدهم التي يؤدونها، وأدوارهم التي يلعبونها، فنعيش معهم ونشعر بانفعالاتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم.
إنّه إبداعٌ استطاع عبره كيسلوفسكي أن يخلّد أعمالاً عظيمة؛ ولعل أشهرها ثلاثية الألوان، و«فيلم قصير عن الحب»، و«فيلم قصير عن القتل»، و«الحياة المزدوجة لفيرونك». وهي أفلامٌ اتسّمت بالعمق، واستطاعت أن تترك أثراً في عقولنا ووجداننا، فتسكننا ونسكنها إلى ما بعد حضورها أو مشاهدتها.
أما عن فيلم كيسلوفسكي ذائع الصّيت: «فيلم قصير عن القتل»، فقد قدّمه المخرج البولندي في عام 1988م، وهو عمل درامي و جريمة، وجزءٌ ممتدٌ من المسلسل التلفزيوني البولندي «ديكالوج Dekalog» أو «الوصايا العشر» (1989-1990) والذي استطاع فيه «كيشلوفيسكي»- وفي حلقاتٍ عشر عُرضت في موسمٍ واحد- أن يعكس عدداً من المعضلات الأخلاقية بمنظورٍ فلسفي يتشابك مع الشعور الإنساني. مع فارقٍ زمني ما بين الفيلم والحلقة الواحدة مدته خمسة وعشرين دقيقة.
وبالعودة إلى الفيلم، فتدور أحداثه في مدينة وارسو، وتتمحور حول «جاسيك لازار»، تلك الشخصية الشابة التي لا نعرف شيئاً عن تفاصيل حياتها الشخصية والعائلية. فنشاهد الشاب وهو يتجوّل في شوارع العاصمة البولندية بعيونٍ تترقب وتراقب كل ما يدور حولها.
حتى يقوم «لازار» ذات يوم بقتل سائق سيارة أجرة قتلا عشوائياً ووحشياً، وفي تقاطع درامي يحدث في الوقت ذاته، يتمكن «بيوتر باليكي» من اجتياز اختبارات المحاماة، ويُقبل انتسابه إلى نقابة المحامين، ويبدأ في خطوات الدفاع عن قاتل سائق سيارة الأجرة. لكن وفي ظلّ غياب مبررٍ قانوني مع غياب دعائم للدفاع، يمثل جاسيك أمام القضاء لمحاكمته، وتصدر المحكمة قرارها بإدانته وإعدامه شنقاً.
إنّ ذلك اليوم لم يكن قط يوماً عادياً للمحامي «بيوتر»، بل وضعه في شكٍ مرير، وهو من وقف مكتوف اليدين أمام إعدام موكله شنقاً، وعاجزاً عن فعل شيء لإنقاذه من براثن الإعدام، مع غياب دافعٍ ظاهر لفعلته. ما حصل أثار في رأس المحامي الشاب زوبعة من الأسئلة حول عدالة القانون، وتحديداً عقوبة الإعدام!
لعلّه الصراع في الداخل الإنساني ما بين الخير والشر، والذي اعتاد «كريستوف» أن يعكسه في مرآة أفلامه. فشخصياته من لحمٍ ودم، ولا هم شياطين أو ملائكة! بل بشرٌ واقترافهم للخطايا واردٌ ومحتمل، حتى في ظل غياب دوافع جليّة ومقنعة! بل كشف «كيشلوفسكي» في إحدى لقاءاته التلفزيونية- وهو من شارك في كتابة فيلمه- بأنه لا يعرف حقاً لماذا قام الشاب بقتل سائق التاكسي! علماً أنّ المرة الوحيدة التي شاهدنا فيها أسرتي الشاب وسائق التاكسي كانت في قاعة المحكمة، مع الاكتفاء بوجوههم دون أن ينبسوا ببنت شفة!
وفي الخوض أعمق في التفاصيل الفنية، يبدأ الفيلم بلقطة تُظهر فأراً ميتاً في مستنقعٍ قذر، مع قط يتدلّى مشنوقاً بحبلٍ مُعلق، ويغلّف المخرج مشهده بموسيقى أقرب ما تكون إلى أفلام الرعب. إنه مشهد افتتاحي تدرك به بأنك أمام فيلم مختلف عن أفلام كرزيستوف كلها.
فالتصوير بحد ذاته مختلف، وكذلك الكثير من اللقطات؛ من بداية الفيلم، وتحركاً مع جاسيك في جو يسوده الظلام أو السواد في جوانب الفريم. مما يجعلنا ومع بداية الفيلم نتساءل: هل ثمة مشكلة في التصوير؟! لكنك ومع الوقت ومن خلال متابعة المشاهدة، تدرك أنه أسلوب تصوير متعمدٍ اعتمده المخرج حتى نهاية فيلمه مع مدير التصوير سيلاومير أدزياك. وإذا ما حللنا هذا الجانب فقد نجد كثيراً من المبررات والمسوّغات الفنية والدرامية، مع استبعاد شخصي بأنه قاموا بهذه المجازفة فقط بهدف تقديم صورة جديدة ومختلفة! إنه أسلوب في الشكل له ما يبرره في المضمون.
ولعلنا حين نتفحص ونحلل مشاهد «جاسيك» في الشارع مثلا، بوسعنا أن نلحظ تلك الجوانب المعتمة والمغشاة في خلفيات الشوارع التي كان يسير بها، وعمقها المظلم، ما يعكس الجانب المظلم ربما في النفس البشرية، والتي لا يعلم عنها الآخرون شيئاً. وبهذا فهو انعكاس أيضاً يفسر بعض خيارات الشخصية الإنسانية، والتي ظاهرياً لا ند ما يبررها أو يفسرها.
فضلاً عن ذلك، فاللون الأخضر في عالم جاسيك هو السائد. حيث استخدم مدير التصوير فلتراً أخضر، ما يحمل عادة معانٍ عدة؛ مثل التفاؤل والسعادة والنظرة الإيجابية للحياة. أما في الفيلم فكان يمثل انعكاساً للتشاؤم والرعب. ولعل فيلم قصير عن القتل، هو من أكثر أفلام «كريستوف» وحشية ورعباً، رغم أنه لا يصنف من ضمن قائمة أفلام الرعب.
من جهة أخرى، أتقن الممثل ميروسراف باكا دور الشاب التائه والخائف. فطوال الفيلم نراه شاحباً وغير مطمئن أحياناً، دونما أن نعرف ما هدفه وماذا يريد. وفي لقطتين لم تتجاوز كل منهما ثلاثين ثانية، ترتسم على وجهه ابتسامة عفوية طفولية. إنه ينقل إلينا بإبداع عالٍ البرود القارس والكامن في عمق نفسه، فنراه حين يخاف ويتردد في فعل شيء ما، يتراجع إلى الظلام أو يخفي عنا جزءً من خوفه خلف الظلام.
أما الصدمة الكبرى فكانت حينما خنق سائق التاكسي بحبل، ومن ثم قام ضربه إلا أنه لمّا يمت بعد. ويبدو وجه السائق مخضب بالدماء، وينظر لجاسيك بنظرةٍ مخيفة ليس فيها خوف أو عتاب أو استجداء! ويستمر جاسيك بسحب السائق لخارج السيارة وضربه بصخرةٍ كبيرة، إلى أن مات السائق ورمى جثته في البحر.
أما في مشهد التجهيز لإعدام جاسيك، فجعلنا المخرج نرقب لحظة بلحظة مع منفذ الإعدام وهو يجهز ويتأكد من أن كل شيء في غرفة تنفيذ الإعدام يعمل كما يرام. وعندما يدخل جاسيك الغرفة مع رجالات السجن والمحامي، ويرى جاسيك ما يدور حوله، يحاول المقاومة ويجعلنا المخرج في هذا المشهد مراقبين لما يحدث، ومع التقاط جاسيك الأنفاس الأخيرة تبرز في أذهاننا فكرة المقارنة ما بين جريمة القتل وجريمة الإعدام.
ومما ذكرته دانوشيا ستوك في كتابها الذي حمل عنوان: «كيشلوفسكي» عن كريستوف كيشلوفسكي؛ أنه وبعد عرض الفيلم، قامت الحكومة البولندية الجديدة بسنة 1989 بتعليق الإعدامات لمدة خمس سنوات.«لقد قصد كريستوف» وعبر فيلمه طرح عقوبة الإعدام كشكل من أشكال العنف. أما نحن فمشهدٌ وحيدٌ كان كفيلا بهزّ وجداننا، وأن يعلق في ذاكرتنا كواحدٍ من أقسى المشاهد التي شاهدناها على الإطلاق في تاريخ السينما!