منذ رفع الحظر عن دور السينما في المملكة العربية السعودية عام 2018، كان فيصل بالطيور في طليعة النهضة السينمائية مبادرًا للعب دور أساسي في تطوير الصناعة الناشئة وتحويلها إلى قطاع مزدهر، حقق حضورًا محليًا ودوليًا خلال سنوات معدودة يندر أن تصل إليها سينما ناشئة.
منذ اللحظة الأولى م يكتف بالطيور بدور المراقب للتحولات التي يشهدها المشهد السينمائي السعودي، بل كان واحدًا من مهندسي تلك التحولات. إذ شارك في كافة مراحل الصناعة التي تسعى لتعويض سنوات من الغياب، فكان من مؤسسي أول دار عرض سينمائي بعد عقود من الحظر، وقاد مشروعات لدعم الإنتاج السينمائي المحلي ساهمت في إيصاله إلى منصات عالمية.
واليوم، وبعد سنوات من العمل الجاد، اختير فيصل بالطيور مديرًا لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، ليقود واحدة من أهم المنصات التي تعزز حضور السينما السعودية والعربية على الساحة العالمية.

مثل كثيرين من صناع السينما السعودية، جاء فيصل من عالم بعيد عن السينما، فقد اختص في دراسة البرمجة ونظم المعلومات الحاسوبية التي حصل فيها على درجة البكالوريوس من جامعة غرب سيدني باستراليا، ثم حصل على الماجستير في الإعلام الرقمي من جامعة نيوكاسل البريطانية.
كانت هذه الخلفية التقنية مدخلًا غير مباشر لعالم السينما، إذ منحته مهارات في التحليل والتخطيط ساعدته لاحقًا في بناء المؤسسات السينمائية التي وضع لبنتها. كما أن دراسته البعيدة عن السينما لا تعني أنه وافد جديد عليها، فقد عمل بالطيور في الإنتاج السينمائي في استراليا ليكتسب خبرة بعد سنوات من العمل، عاد بها إلى المملكة العربية السعودية بمجرد الإعلان عن فتح المجال أمام السينما ورفع الحظر عنها.

تولى فيصل إدارة أول دار عرض سينمائي في السعودية والتي افتتحت في مركز “إثراء” في 2018، ليكون شاهدًا على اللحظات الأولى لعودة العروض السينمائية إلى المملكة. لاحقًا، اختير فيصل رئيسًا تنفيذيًا للمجلس السعودي للأفلام، الذي تحول لاحقًا إلى هيئة الأفلام السعودية.
من خلال هذا المنصب، سعى بالطيور إلى إنشاء منظومة تدعم الكوادر السعودية الموهوبة وتوفر لهم الأدوات التي يحتاجونها للانطلاق في مسيرتهم الإبداعية. لكنه أدرك أن هناك فجوات في القطاع لا تستطيع المؤسسات الرسمية وحدها معالجتها، وكان لا بد من إيجاد حلول أكثر مرونة لدعم الصناعة الناشئة.

عند توليه مهام منصبه في المركز السعودي للأفلام، لم يكن في المملكة شبكة من المنتجين القادرين على دعم المواهب الصاعدة، ولم تكن هناك شركات توزيع متخصصة في تقديم الأفلام السعودية للجمهور المحلي والعالمي، كما لم يكن هناك فضاء يسمح بدعم السينما الفنية والمستقلة.
مثلت تلك التحديات دافعًا لفيصل بالطيور ليخوض تجربة جديدة، لا تستهدف المكاسب المادية، وإنما إفساح المجال للمشاريع السينمائية الواعدة، فانتقل إلى القطاع الخاص وأسّس عدة مشاريع تهدف إلى سد هذه الفجوات وبناء صناعة سينمائية مستدامة.
أنشأ فيصل شركة سيني-ويفز CineWaves Films التي تخصصت في توزيع الأفلام السعودية والعربية، ثم أسس سيني هاوس “CineHouse”، أول دار سينما فنية مستقلة في الرياض، لتوفير منصة للأفلام التي قد لا تجد طريقها إلى دور العرض التجارية الكبرى.
في ظل هذه التحولات، لم يكن العمل داخل المملكة هو الطموح الوحيد لفيصل بالطيور، إذ يرى أن السعودية يجب أن تلعب دورًا أكبر في دعم الأصوات السينمائية من المنطقة العربية كلها؛ لذلك، قرر خوض تجربة الإنتاج وكانت أحد محطاته الكبرى مع الفيلم السوداني “وداعًا جوليا” للمخرج محمد كردفاني، الذي أصبح أول فيلم سوداني يُعرض في مهرجان كان السينمائي، والذي رُشّح لاحقًا لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم عالمي.
لم يكن هذا الإنجاز مجرد نجاح لفيلم واحد، بل دليلًا على أن السعودية قادرة على أن تكون داعمًا رئيسيًا للإبداع السينمائي العربي، وأن تأثيرها الثقافي يمكن أن يمتد إلى ما هو أبعد من حدودها.

لكن ربما كان النجاح الأكثر تأثيرًا على المستوى المحلي هو توزيع فيلم “شمس المعارف” للمخرج فارس قدس، الذي صدر في ذروة جائحة كورونا عام 2020. فبينما كانت معظم الأفلام العالمية تؤجل إصداراتها؛ قرر فيصل بالطيور المخاطرة وعرض الفيلم في الصالات السعودية. كانت النتيجة مفاجئة، حيث حقق الفيلم نجاحًا غير مسبوق وجذب أكثر من 110 آلاف مشاهد، ليصبح بذلك أكبر فيلم سعودي من حيث عدد التذاكر المباعة في ذلك الوقت، وظل للفيلم قصب السبق نفسه لثلاث سنوات لاحقة.
كان هذا الإنجاز إشارة واضحة إلى أن هناك جمهور محلي متعطش لمشاهدة أفلام تعكس هويته، وأن الأفلام السعودية ليست مجرد تجربة لملء الفراغ السينمائي؛ بل لديها القدرة على تحقيق نجاح تجاري حقيقي.
في عام 2022 حصد بالطيور «جائزة الأفلام» إحدى جوائز مبادرة «الجوائز الثقافية الوطنية» تقديرًا واحتفاءً بجهوده الكبيرة في تطوير ودعم قطاع السينما السعودية.

لم يتوقف طموح بالطيور عند حدود تحقيق النجاحات الفردية، بل كان يسعى إلى بناء صناعة متكاملة قادرة على الاستمرار لسنوات طويلة. المتابع لخطواته يجده مؤمنًا أن السينما ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة لحفظ الثقافة وتوثيق التاريخ وتعزيز الهوية الوطنية.
في تصريحاته المتكررة، يشدد فيصل على أهمية أن تحكي السعودية قصصها بنفسها، بدلًا من أن تُروى بعيون الآخرين. ويرى أن الأربعين عامًا التي غابت فيها السينما عن المملكة لم تكن مجرد فترة فراغ، بل فرصة ضائعة لرواية قصص لم يتم توثيقها. ولذلك، فإن مهمته التي كلف بها نفسه مسؤولاً تنفيذيًا في مركز الأفلام ومنتجًا مستقلاً، لا تقف عند صناعة أفلام جديدة؛ بل وإعادة بناء ذاكرة بصرية للبلاد، وتقديم سرد سينمائي يعكس روحها وتنوعها.
ومع تعيينه اليوم مديرًا لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، يجد فيصل بالطيور نفسه أمام تحدٍ جديد، لكنه في الوقت نفسه هو التحدي الذي كان مستعدًا له منذ سنوات. فالمهرجان، الذي أصبح واحدًا من أبرز الفعاليات السينمائية في العالم العربي، يمثل منصة مثالية لتحقيق رؤيته في دعم السينما السعودية والعربية وإبرازها على الساحة الدولية.
خلال الدورات الماضية، أثبت مهرجان البحر الأحمر السينمائي قدرته على جذب كبار صناع الأفلام من جميع أنحاء العالم، وبات منبرًا للأعمال السينمائية الطموحة التي تعكس التنوع والإبداع في المنطقة. ومع قيادة بالطيور، يُتوقع أن يأخذ المهرجان خطوة أخرى نحو الأمام، ليصبح جسرًا حقيقيًا بين السينما السعودية والعالم، ونافذة تعرض من خلالها المملكة قصصها بثقة وقوة.
التحديات لا تزال قائمة، والطريق نحو صناعة سينمائية سعودية قوية ومستدامة لا يزال بحاجة إلى الكثير من العمل. لكن ما يميز فيصل بالطيور هو أنه لا يرى هذه التحديات كعوائق بحسب تصريحاته المتكررة، بل يراها فرصًا لإثبات أن السعودية لديها مكانها المستحق في عالم السينما.
اقرأ أيضا: «البحر الأحمر السينمائي» يفتح باب التقديم لدورته الخامسة