فاصلة

حوارات

فنسان لاندون لـ«فاصلة»: مشاهدة نفسي على الشاشة جلسة تعذيب

Reading Time: 6 minutes

نال الممثّل الفرنسي الكبير فنسان لاندون جائزة التمثيل في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي عن دوره في «اللعب بالنار» للمخرجتين الشقيقتين دلفين وموريال كولان. في سعيه لإنقاذ ابنه من براثن اليمين المتطرف، والتعامل مع المستجد في حياته بحكمة وتفان وحبّ، استطاع لاندون أن يسحق قلوبنا والفوز بالجائزة المرموقة التي تسلّمها من يد مواطنته إيزابيل أوبير، رئيسة لجنة التحكيم. هذه ليست المرة الأولى يصنع فيها لاندون دهشة أدائية، فهو أحد أسياد التشخيص في الشاشة الحديثة.

 تميل «مدرسته» إلى المكوث في وقار من التلقائية بعيداً من أي تصنّع، حد ردم الهوة بين الشخص والشخصية. هذا النمط وضع أسسه منذ بداياته في مطلع الثمانينات. يكفي أن ترميه في أي مكان ليخرج منه بفيلم. لاندون هو السيناريو والإخراج والتمثيل في جسد واحد. جامع كلّ الأطراف. نوع من خلاطة مولينكس، تضع فيها مواد مختلفة فيخرج لك بعصارتها. في الآتي، مقابلة أجريناها مع هذا الفنّان البالغ من العمر 65 عاماً، عشية فوزه بالجائزة. 

فنسان لاندون
فنسان لاندون – البندقية 81

أنت تضطلع بدور الأب في «اللعب بالنار»، وموضوع الأبوة بالغ الأهمية في الفيلم. مع ذلك، قلتَ أنك لا تحب الأفلام التي تعطي المُشاهد أوامر، رغم أن إحدى وظائف الأب هي توجيه أبنائه. كيف وفّقتَ بين هذين الجانبين؟ ألا يوجد شيء من التناقض؟

لا، العلاقتان ليستا سيّان. لا أوجّه ابني. هذا ما يعطي الفيلم قوته. في كلّ مرة يخرج عن الخط، أعود واقترب منه لعقد مصالحة، لكني لا أعطيه توجيهات. لا أفرض عليه دروساً أخلاقية بل أعارضه بشدّة. هنا يقع الاختلاف. صحيح أن من مهام الأهل توجيه الأبناء، لكن عندما أقول إنني لا أحب الأفلام التي تعطيني أوامر، أقصد تلك التي تتعامل معي باعتباري غبياً. أعتبر أنه عندما يدخل المُشاهد إلى صالة السينما، عليه أن يكون حراً وأن يكون على مسافة من الأشياء كي يكوّن رأياً حراً. علينا كسينمائيين أن نعرض الوقائع، بأفضل طريقة ممكنة، من دون أن نقول للمُشاهد «هذا جيد، هذا سيئ».

 لا يعود إلينا القول «لا تفكّروا بالطريقة الفلانية»، ولو أنه، يجب الاعتراف، نحن نفعل ذلك في الفيلم بطريقة ضمنية متسترة، إذ أن المتلقّي يفهم في الأخير ما هو التفكير الصائب. إذا عرضتَ لونين بعيدين أحدهما عن الآخر، فلا بد أن نرى أن أحدهما أقوى من الثاني. لا يمكن أن نفعل شيئاً حيال ذلك. لكن، في المقابل، من الممكن أن نعطيهما فرصتين متساويتين. لذلك، أمقت الأفلام التي تفصل البشر بين أشرار وطيبين. أفضّل شيئاً من الالتباس والتساؤلات والغموض. 

هل جذبك دور الأب أكثر من انجذابك إلى الخطاب السياسي الذي يحمله الفيلم؟

انجذبتُ لكليهما. إنها فكرة القصّة الصغيرة داخل القصّة الكبيرة. أما أيٌّ منها هي الصغيرة وأيٌّ هي الكبيرة، فهنا السؤال… لي جوابي الخاص الذي لا أفرضه على المُشاهد، وأعتقد ان القصّة الكبيرة هي قصّة الحبّ غير المشروط من الأب لابنه. وهي ستبقى إلى الأبد أهم قصّة عند البشر. أما القصّة الصغيرة، فهي تلك التي يعيشها الشاب عندما يقع في شباك التطرف، وهذا شيء في منتهى الخطورة. لكنها ستبقى القصّة الصغيرة بالمقارنة مع الحبّ الذي سيكون مؤلماً. 

فنسان لاندون - فيلم «اللعب بالنار» (2024)
فنسان لاندون – فيلم «اللعب بالنار» (2024)

صرحتَ في المؤتمر الصحافي في البندقية أنه تم اختيارك لهذه الشخصية لتشابه شخصك مع الدور.

نعم، يشبهني حتماً لأن الشخصية هي أنا. هذا ما يدفع السينمائيين في الأساس إلى اختيار ممثّل. يختارونه لأنهم يعتقدون بأنه سيكون مناسباً لدور معين. لكن، نحن الممثّلون عندما نؤدّي دوراً، نصبح في لحظة من اللحظات، الشخصية تماماً. وعندما نصبحها، نصبح شبيهين بها إلى حد كبير. وفي الأخير، يصبح الممثّل والدور كتلة واحدة.

 السؤال الأهم: هل لا أزال الشخصية عندما أذهب إلى المطعم مساءً بعد التصوير، أو عندما أكون نائماً؟ بصراحة، لا أعلم. لكن، ما أعلمه جيداً هو أنني لن أكون كليهما معاً في وقت واحد. أنا لا أعمل في مكتب ارتاده صباحاً وأعود منه مساءً. أنا إما الدور أو فنسان لاندون. يمكنني أن أكون أيضاً مزيجاً من الإثنين. لا أخرج من الشخصية ولكن لا أخرج أيضاً من ذاتي. في النهاية، لكلّ ممثل طريقته في العمل. 

أليس من المتعب أن تكون هكذا؟

لا أفكّر في الأمر. يحدث بشكل تلقائي. 

اذاً، أنت لا تتبع أي منهج.

لا. هكذا أنا. لا يسعني أن أفعل شيئاً حيال من أنا عليه. 

ثمّة علاقة طبيعية جداً بينك وبين الممثّلَين الآخرَين، سواء في النحو الذي تنظر فيه إليهما أو التفاصيل الجسدية وغيرها ممّا يوحي بالتقارب، إلخ…

حدث تعاون حقيقي بيننا. لم نختلقه. فرض وجوده. هذا الأمر أشبّهه بتاريخ العالم. حدث تعاون، ثم بعد ذلك، بدأنا نخترع الأسباب التي تشرح وجود هذا التعاون. لكن في الحقيقة نحن لا نختلق شيئاً. عندما تشرح لماذا عشتَ علاقة استمرت عشرين عاماً مع شخص ما، عبر القول أنك عندما دخلتَ من باب المطعم وعلى الفور رأيته ورأيتَ فيه طيبة وذكاء، فإجابتي لك «لا، لم ترَ شيئاً، لأنه لم يتسن لك الوقت لترى أصلاً». ما عشته مجرد حالة كيميائية، شيء حيواني، والآن تجد نفسك مضطراً لاختراع دوافع وقوعك في غرام هذا الشخص. هذه كلها أشياء لا يوجد لها أي تفسير.

 في العودة إلى موضوعنا الأساسي، تفاهمنا جيداً نحن الثلاثة خلال التصوير، منذ لحظة لقائنا الأولى، حدث تعاون صريح بيننا، الأمر الذي يظهر جلياً على الشاشة. لكن الإدعاء أننا اخترعنا هذا الشيء، فهنا عليّ أن أجزم أن هذا غير صحيح. الأشياء حدثت من تلقاء نفسها. في الماضي، عملتُ مع ممثّلين وممثّلات، وكنّا على خط واحد من التفاهم، لكن روح التعاون هذه لم تحدث. 

فنسان لاندون - فيلم «اللعب بالنار» (2024)
فنسان لاندون – فيلم «اللعب بالنار» (2024)

كيف تعلم أن هذه الروح ستكون موجودة قبل البدء بالتصوير؟

لا أعرف. هذا ما وددتُ قوله قبل قليل. 

هل تخشى غيابها؟

بالطبع. أصل إلى موقع التصوير، يُقال لي أن هذين الشابين ابناك في الفيلم، أهز رأسي وأمضي إلى التصوير. في البدء، أوضّح أنهما ليسا ابنيّ. ثم بعد أن يسعى الطرف الآخر إلى طمأنتي، لا أعود أملك سوى الأمل، الأمل ان يسير كلّ شيء على ما يرام. ثم، نصل في صباح اليوم التالي، نلقي التحية بعضنا على بعض، وهناك أشياء تتولّد تدريجاً. يقترح أحدنا على الآخر ان نشرب كأساً معاً، وفجأةً شيء ما يتأسس. قد لا يحدث فوراً، لكن على الأقل بعض الحواجز تسقط واحداً تلو الآخر.

هل حدث أن هذه الشرارة لم تتولّد بينك وبين شركائك في التمثيل؟

بالطبع. 

وماذا تفعل في تلك الحالة؟

أؤدي واجبي المهني. 

وهل يمكن لمس ذلك على الشاشة؟

ليس بالضرورة. الأشياء ليست بهذه البساطة. الحياة أعقد من ذلك. أحياناً، نستمتع جداً في تصوير فيلم، لكن النتيجة تأتي فاشلة، والعكس صحيح. لا توجد وصفات جاهزة للعمل الفني، وإلا كنا جميعاً اعتمدناها ضامنين النجاح الأكيد. 

هل تلقيتَ تعليمات كثيرة من المخرجتين خلال الفيلم؟

لا. لا أحب تلقّي الكثير من التعليمات. بعض السينمائيين يكثرون من التوجيهات وآخرون يوجهونك من دون تعليمات. يموضعونك في مناخ من الحرية. وهذا يجعلك تستشيرهم بعد التصوير لتسألهم عن رأيهم في أدائك. إنه أشبه بترويض. بعضهم يستخدم النعومة وبعضهم الآخر يلجأ إلى القوة. 

أعتقد أن التوجيه يبدأ منذ مرحلة اختيار الممثّل للدور.

بالضبط. كم صحيح ما تقوله. كلّ العمل يُنجز منذ تلك المرحلة. أن تختار أحدهم، فهذا يعني أنك وجَّهتَ إليه التعليمات. 

هل البُعد الاجتماعي حاسم في اختيارك أي دور؟

نعم، هذا مهم. لكن اختياري لا ينحصر في هذا فحسب. أختار دوراً لأنني في الأصل أحب السيناريو. وإذا كان الفيلم بالإضافة إلى حبّي للسيناريو، مطعَّماً بهمّ اجتماعي، فهذا يضاعف حماستي. 

هل ترى أي تشابه بين دورك في جديدك وبين الأفلام ذات البُعد النضالي اليساري التي أدارك فيها المخرج ستيفان بريزيه؟

نعم. في كلّ هذه الأفلام أعتبر نفسي أنني ما يسمّيه الأميركيون بـ«شاب الجوار». الجار. إني جار الفرنسيين. في الولايات المتحدة، تولّى توم هانكس هذه الشخصية باستمرار. أنه جار الأميركيين. أنا مقابله الفرنسي. 

هل ثمة فيلم من بين الأفلام الخمسة التي أنجزتها تحت إدارة بريزيه تراه أرفع شأناً من غيره؟

لا أنظر إلى الأشياء من هذه الزاوية. أبداً، أبداً، أبداً. وإلا وجدتني في ورطة، غير قادر على مواصلة عملي. أقوم بواجبي، ثم…

فنسان لاندون وستيفان بريزيه
فنسان لاندون وستيفان بريزيه

لكن، هل ثمة دور من أدوارك تعيد مشاهدته مثلاً؟

لا أشاهد نفسي على الشاشة اطلاقاً. هذه جلسة تعذيب بالنسبة لي. لا أرغب في ذلك. أرى ممثّلاً لا أحبّه كثيراً في أداء لا أستطيع تغييره. ما الفائدة؟ ما الفائدة من صرف الوقت في مشاهدة شيء لا قدرة لي على تغييره؟ للأسف، أحياناً، أضطر، لا سيما خلال عروض المهرجانات. هذا التعذيب شيء خاص بي، ولكن ممثّلين آخرين يحبّون رؤية أنفسهم على الشاشة. انا أتعذّب بشكل لا يمكنك تخيله. 

ألا يحدث أن تُعجَب بفيلم من أفلامك؟

بالتأكيد، حدث هذا كثيراً.

هذا يعني أنك قد تُعجَب بالفيلم ولا تُعجب بأدائك فيه؟

قد أُعجَب أيضاً بأدائي، ولكن أكون في حينها على مسافة قريبة، غير كافية للنقد الذاتي. لكن حين أعيد مشاهدته بعد سنتين مثلاً، أشعر بعدم الرضى.

تتعذّب في مشاهدة الفيلم أكثر من المشاركة فيه كممثّل؟

نعم. لكن، بصراحة، أنا أتعذّب طوال الوقت. 

وهل تشعر بعدم الأمان ذاك خلال التصوير أم أن هذا يأتي بعد التصوير؟

يرافقني الخوف على الدوام. أحياناً، لا أرغب في الذهاب إلى التصوير. أخاف قبل التصوير، خلاله وبعده. 

ولكن ما الذي يعذّبك في كلّ شيء يحيط بك؟

أتمازحني؟! لم تبقَ سوى دقائق وتنتهي هذه المقابلة، أتريدني أن أروي لك عن العالم من حولنا؟ نحتاج إلى عشر ساعات…

حسناً، ما الذي يجعلك إذاً تمارس مهنة تتعذّب فيها؟ هذا يعني أن هناك حتماً ما يجذبك إلى هذا العذاب؟

الأمر أشبه أن تخوض تجربة حياة زوجية. لا أحد يعرف ما الذي يحدث داخل غرفة نوم الزوجين. إنه تلذذ سادي مازوخي. إليك سلسلة التناقضات التي يوفّرها التمثيل: أتعذّب ولكني أشعر بمتعة. أكره المهنة لكني أعشقها. لا أرى أي فائدة في ما أفعله، ولكن في الوقت نفسه أوظّف فيه كلّ طاقتي ولا أرى ما هو أهم منه. 

هذا ما يعطي الحياة ثرائها. كلّ شيء في الحياة هو في منتهى الغرابة. أحياناً، أخشى الدخول في مشروع معين، ولكن إذا لم أخضه فسيخوضه شخص آخر وإذا خاضه شخص آخر سأصاب بإحباط. نتشابه جميعاً. نتغذّى من التناقضات: نعمل على فيلم نعتقده الأهم في العالم، ومع ذلك نعلم أنه ليس أكثر من مجرد فيلم آخر في سجلّنا. لكن، رغم ذلك، لا أرى نفسي فناناً محبطاً، بل إني شديد السعادة. أعيش ببهجة، أعشق الحياة. مع التقدّم في السن، بدأتُ أفهم الحياة قليلاً. لاحظ أنني قلتُ «قليلاً».   

اقرأ أيضا: «اللعب بالنار»… الأبوة في مهب التطرف

شارك هذا المنشور

أضف تعليق