إن تقديم فيلم من منظور الشخص الأول (First Person Perspective)، هي فكرة سردية سينمائية خطيرة وجريئة ومربكة. فاستخدام الكاميرا كعيون حقيقية للشخصيات، نادرًا ما تكون ناجحة. مع ذلك، لا يلتزم المخرج الأميركي راميل روس في فيلم «فتيان نيكل» (2024، «Nickel Boys»)، بالفكرة فحسب، بل يقدم أيضًا أحد أجمل وأهم الأفلام لهذا العام. «فتيان نيكل»، رحلة مفجعة ومزعجة في ظلام مدرسة إصلاحية وحشية في الجنوب الأميركي، بموجب قوانين جيم كرو (القوانين التي شرّعت التمييز العنصري).
لم يكن راميل روس والكاتبة المشاركة جوسلين بارنز يعملان من الصفر على القصة وطريقة التقديم، بل من رواية الكاتب كولسون وايتهيد «The Nickel Boys» (2019، الحائزة جائزة بوليتزر)، عن مراهقين أسودين يصبحان صديقين أثناء وجودهما في إصلاحية للأحداث في فلوريدا. تسمى الإصلاحية «نيكل» في الرواية وفي الفيلم، وتستند القصة إلى الانتهاكات المروعة في مدرسة فلوريدا للبنين (المعروفة أيضًا باسم آرثر جي دوزير للبنين، وهي إصلاحية أدارتها ولاية فلوريدا في بلدة ماريانا من 1 يناير 1900 إلى 30 يونيو 2011. ولفترة من الوقت، كانت أكبر مؤسسة إصلاحية للأحداث في الولايات المتحدة. وطوال تاريخها الممتد على 111 عامًا، اكتسبت المدرسة سمعة سيئة بسبب الإساءة والضرب والاغتصاب والتعذيب وحتى قتل الطلاب من قبل الموظفين).
«فتيان نيكل» أقرب إلى مذكرات أكثر من أي شيء آخر، فهو يجمع بين الصدمة التي لا توصف والمرونة البشرية من خلال عيون صبيين أميركيين من أصل أفريقي. في ستينيات القرن الماضي، ولد إيلوود (إيثان هاريس)، ونتتبع شبابه في تالاهاسي، حيث نشأ مع جدته هاتي (أونجانو إليس تايلور)، التي تتمتع بقدر كبير من المرح والحماية لهذا الشاب الذي لا يملك سواها. إيلوود ذكي ومنسجم مع حركة الحقوق المدنية بشكل عام، يستمع إلى خُطب مارتن لوثر كينغ الابن، ويثير إعجاب معلميه، الذين أوصى به أحدهم لتكملة دراسته في الجامعة. في طريقه، يستقل سيارة مع رجل يرتدي بدلة فاخرة، من دون أن يدرك أنّ السيارة مسروقة. عندما يُقبض على الرجل، يُرسل إيلوود البريء، إلى إصلاحية نيكل (ليس كل طلاب نيكل من السود، لكن هناك تسلسل هرمي بين الطلاب). هناك، يصادق تيرنر (براندون ويلسون)، «طالب» في الإصلاحية، أكثر تشاؤماً بشأن الحياة. على الرغم من اختلافاتهما الفلسفية، فإن الصبيين يرتبطان بصداقة سريعة تساعدهما على تمرير الأيام القاسية هناك.
يؤطّر روس هذه القصة بشكل فريد وجريء، حصريًا من خلال لقطات «منظور الشخص الأول»، بالتناوب بين عيني إيلوود وتيرنر. بالنسبة إلينا، تأخذنا وجهات النظر المتغيرة أحيانًا عبر المشهد نفسه من وجهات نظر مختلفة. يعمل التكرار والتنوع، والحيل السينمائية الأخرى، مثل تقديم مشهد بسرعة، والتناوب بين المستقبل والماضي، والتبديل السريع بين عيون الشخصيات التي ننظر من خلالها، على تعميق ارتباطنا بهذه الشخصيات وفهمها. قد تبدو طريقة السرد هذه مقيدة في البداية، لكنها مع الوقت تصقل القصة بطريقة تسمح للقطات الأرشيفية والصور الرمزية الأخرى بتعزيز رؤية روس للفيلم، بدلًا من أن تكون بمثابة خيال جمالي تعسفي.
مع ذلك، تعتبر اختيارات روس السردية معقّدة، مما يدفعنا إلى التركيز على ما هو أمامنا مع مراعاة ما حُذف عمدًا. من السهل انتقاد الفيلم لما يفتقر إليه، لكنني أعتقد أنّ الغموض الذي نشعر به طوال الفيلم يعزّز المهمة التي يعمل روس من أجلها. ربما يكون الجانب الأكثر لفتًا للانتباه في حركة الكاميرا (تصوير جومو فراي) هو اهتمامها بالتفاصيل، فهي لا تعمل كأنها كاميرا، بل مثل الشخص الذي لا يرى دائماً كل ما هو «مهم». في بعض الأحيان، تكون يد الشخصيات أو حذائها، أو قميصها الممزق، أو ربما فقط الظلام، ونفخة الدخان. ثم يتحول النظر إلى مكان آخر، إلى جدار، يد مرتعشة، زاوية من الكتاب المقدس، والأصوات القادمة من الغرفة الأخرى، وفرقعة السوط والأنين… لا نحتاج إلى رؤية كل شيء لنشعر بتأثيره.
قادمًا من عالم صناعة الأفلام الوثائقية، لا يزال نهج روس في السرد يحتفظ بعناصر من ذلك النوع من صناعة الأفلام الذي يتجلّى في مساحة السرد الخيالي. إن هذه الطريقة التي استعملها ليست مصمّمة لتكون خدعة لافتة للنظر، بل تعمل على التغلب على المألوف في سرد أفلام من هذا النوع (أميركا العنصرية، الإصلاحية الشريرة)، في هذا، يبسط روس فيلمه في كل مكان وكل شيء، مع إبقائنا منغمسين في الوقت نفسه. يصوّر الفيلم بحساسية وتعاطف شخصيات سوداء تظهر مرونةً وسط الاضطرابات العنصرية، ويظل إيلوود، مخلصًا لقناعاته بشأن الصواب والخطأ. وتستمر الصورة الواثقة، والشعور بالألم والفرح تحت نسيج الفيلم.
قد يأخذ تجميع الخيوط، أو الاقتناع بطريقة السرد والكشف عن كل شيء من الناحية العاطفية وقتًا طويلًا، لذلك يتطلب الأمر الصبر والاستسلام للفيلم. إن تكييف عمل أدبي غالبًا ما يجبر صنّاع الأفلام على التجول في المناطق السردية التقليدية، ولكن روس شقّ بمهارة طريقه الخاص.
اقرأ أيضا: «قطار الأطفال».. التاريخ بعدسة الطفولة