في البدء كانت الموسيقى
تتأرجح الثريا في الظلام، تبدأ الموسيقى بالتصاعد، بينما تبتعد الكاميرا عن الثريا. نتحول إلى ضوء النهار ولقطة قريبة. رجل في خمسينياته «روي » متجهم وبلا أي حيوية، متجمد في تأملاته كأنه تمثال، شارد في أفكاره في صمت لا يكسره سوى زقزقة العصافير. يقترب خادمه العجوز حاملًا النرجيلة، لكنه لا يتحرك. يسأل: «في أي شهر نحن؟». تنكسر سكينته بأصوات موسيقى احتفالية تأتي من الجوار. يحتفل جاره؛ رجل الأعمال الصاعد «غانغولي»، بطقوس الخيط المقدس لابنه، وهو طقس يرمز إلى دخول الصبي مرحلة جديدة في الحياة الدينية والاجتماعية في طبقة البراهمن الهندوسية. فجأة، ننزلق إلى مشهد استرجاعي مدته أربعين دقيقة، حيث يتذكر «روي» الطقوس نفسها لابنه قبل بضع سنوات.
هكذا يبدأ المشهد الأول من فيلم «غرفة الموسيقى» للمخرج الهندي الأشهر «ساتياجيت راي»، إنتاج عام 1958.
في المشهد الاسترجاعي نرى نعود إلى فترة ازدهاره وقوته والتحضير لهذا الحفل. يأتي «غانغولي» ليناقش بعض الأمور المتعلقة بالعمل. يُبرز المخرج الفرق بين الشخصيتين بوضوح؛ روي يظهر بأناقة ورقي، يدخن بهدوء وسكينة، بينما غانغولي يبدو كأي محدث نعمة، يدخن السجائر بتوتر وفظاظة. تجسد أناقة الأرستقراطي الرقي والهدوء، بينما تعكس تصرفات محدث النعمة عدم التهذيب والتوتر. تُقام سهرة موسيقية كبيرة في غرفة الموسيقى الواسعة. يجلس «روي» وضيوفه، بمن فيهم «غانغولي»، مستمتعين بخمرهم بينما تؤدي مغنية أغنية «الثمري» وهو شكل من أشكال الغناء الهندي الذي يتميز بالرومانسية والعاطفية، تتحدث الأغنية عن اقتراب عاصفة. في وقت لاحق من تلك الليلة، نفهم من حديث «روي» المتلعثم مع زوجته في غرفة نومهما أنه مستعد لإنفاق آخر قطعة ذهبية لديه ليستمتع بمثل هذا الغناء. الموسيقى تسيطر على حياته تمامًا، ويتضح أنه يبيع ما تبقى من أملاكه لدفع تكاليف الموسيقيين. تطلب الزوجة منه إغلاق غرفة الموسيقى على أمل تغيير أسلوب حياته وخوفها على ابنها الذي يسلك طريق والده في حبه للموسيقى، لكن «روي» المنتشي بموسيقاه لا يعيرها اهتمامًا. يظهر «روي» هنا كرجل متعال ومتغطرس أعمى عن حقائق العالم، مهمل ولا يمكنه القيام بأي عمل مفيد. ثم تحصل على إذنه للسفر مع ابنها لزيارة والدها المريض، تذكره قبل مغادرتها بالنهر الذي يلتهم طوفانه أراضيه.
الحداثة مقابل التقليد
بعد مغادرتهم، وبينما كان «روي» يستمتع بسلام لصوت عازف السيتار الخاص به، ينزعج حين يسمع الضجيج الصاخب القادم من منزل «غانغولي» المجاور. يدرك أن الصوت ناتج عن المولد الكهربائي الجديد الذي حصل عليه؛ علامة من علائم حضور «الحداثة المتطفلة». ففي حين يضاء منزله بالثريات التي تُضاء بالشموع، يمتلك غانغولي الآن أضواء كهربائية حديثة. شعور «روي» بالقلق لعلمه أن منزل غريمه مجهز بالأثاث البريطاني الحديث، يرافقه شعور بالارتياح أن الأخير لا يمتلك شيئًا يشبه غرفة الموسيقى الأنيقة الخاصة به، والتي تُعتبر رمزًا لأهميته الاجتماعية والثقافية. سرعان ما يأتي «غانغولي» إلى منزل «روي» ليدعوه إلى حفل يعتزم إقامته احتفالًا بافتتاح بيته الجديد ورأس السنة البنغالية.
يقرر «روي»، كرد فعل فوري على دعوة «غانغولي»، إقامة حفل موسيقي كبير في غرفة الموسيقى الأنيقة الخاصة به في نفس اليوم الذي خطط فيه غانغولي لإقامة حفله، مما يتسبب في إحراج الأخير وإجباره على تأجيل حفله؛ الخطوة قبل الأخيرة قبل انهياره المالي والتي يواجهها بالمضي قدمًا لإظهار تفوقه على ابن المرابي كما يدعوه، ثم يأمر بعودة زوجته وابنه ليحضرا الحدث الكبير. هذا يقودنا إلى الحفلة الموسيقية الثانية التي تقام في غرفة الموسيقى، المشهد المركزي في الفيلم. حيث يتحد غناء المغني الهندي الشهير سلامت علي خان مع لمسة راي السينمائية الدقيقة. ننتقل من غرفة الموسيقى إلى «روي» وهو يسير في شرفته، يشاهد ومضات العاصفة القوية. الثريا فوقه تتمايل مع صوت المغني. يزداد اضطرابه عندما يرى حشرة تغرق في كأس نبيذه. الجمال الفائق للموسيقى يتلوث باضطراب العالم الخارجي الذي ينذر بالسوء. بعد الحفلة، يعلم أن زوجته وابنه قد غرقا خلال العاصفة التي شاهدها. يدرك «روي» أن حياته قد دُمّرت بشكل كامل، ويأمر خدمه بإغلاق غرفة الموسيقى نهائيًا. ينتهي الفلاش باك ونعود إلى «روي » على كرسيه، نفهم سبب مآل «روي». فرغم أنه لا يزال يملك قصره، إلا أنه فقد ثروته وخدمه. ينهض روي من أريكته على السطح ويقرر النزول ليُعاين بقايا ماضيه؛ فيله وحصانه، ولكن متعته تُفسد بمشاهدة شاحنات «غانغولي» الحديثة وهي تثير الغبار أثناء مرورها بجانب فيله. الحداثة من جديد.
الإدراك المتأخر والسقوط
يأتي غانغولي لزيارة أخيرة ليعلن بفخر أنه قد أضاف غرفة موسيقى أنيقة إلى قصره الخاص وسيقوم بافتتاحها بحفل موسيقي كبير. هذا أكبر من طاقة «روي» على التحمل. يخبر آخر موظفيه المتبقين، بتوظيف نفس الفرقة التي سيحضرها غريمه لإقامة حفلة في غرفة الموسيقى الخاصة به في اليوم التالي مباشرة، ودعوة الجميع للحضور. الحفلة الأخيرة والرقصة الأخيرة والنهاية الفعلية لـ «روي» وحقبته. يدخل روي غرفة الموسيقى. يتفحصها مستذكرًا تاريخها. تملأ الثريا العناكب الآن. ينظر أخيرًا إلى نفسه في المرآة. تبدو ملامحه حزينة وفارغة، ويبدو هشًا، سلطته تلاشت تمامًا. تقام الحفلة الثالثة. في نهاية الحفل وعندما يحاول «غانغولي» الذي أصبح ثريًا الآن تقديم هدية للراقصة، يتدخل روي بصرامة ويؤكد حقه الحصري كمضيف لكي يقدم الهدية. يكون «روي» مع هذه المبادرة قد تخلى عن آخر ما يملك من ثروته. في الحفل، يكشف «غانغولي» عن جهله بالبروتوكولات المناسبة، بينما يُظهر الخادم القديم، استمتاعًا بسيطًا وعفويًا بالجلسة التي ينظمها سيده. يتحلى روي بالمقابل بتقدير في تأمل كل ما يجري حوله، يخفي وراءه غضبه الداخلي من وضعه المزري.
يقدم «ساتياجيت راي» من خلال مقارنة ردود أفعال هاتين الشخصيتين مع مظهر «روي»، تعليقًا على جماليات الحضور الإقطاعي الأرستقراطي وذلك من خلال إظهار افتقار«غانغولي» والخادم للتهذيب الأرستقراطي.
بعد الحفلة، يكون روي منتشيًا بنبيذه وبالفخر أيضًا، معتقدًا أن دمه النبيل الذي يميزه عن «ابن المرابي» يجعل تفوقه أمرًا محسومًا. يتجول في غرفة الموسيقى المزينة بصور أسلافه، لكنه يصاب بالذعر فجأة عند رؤية شموع الثريا تتلألأ في كأس نبيذه الأخير وهي تحترق ببطء، واحدة تلو الأخرى. يمتطي حصانه وينطلق مسرعًا، ولكنه يفقد توازنه ويسقط من فوق حصانه ليلقى حتفه. يُظهر المشهد الأخير عمامته، آخر رموز قوته، ملقاة على الأرض، قبل أن ينتهي الفيلم بعرض الثريا المتأرجحة التي شاهدناها في بداية الفيلم. يموت البطل في المرة الوحيدة التي نراها فيها خارج بيته منذ بداية الفيلم. بيته هو المكان الوحيد الذي ينتمي لهذه المنظومة المحتضرة.
الرموز والتحولات
يحكي فيلم «غرفة الموسيقى» قصة إقطاعي، هو الأخير في عائلته حتى أن ابنه يموت قبله، في مرحلة انتقالية تشهد نهاية عصر وبداية عصر جديد. وفقًا لساتياجيت راي، فإن الفيلم «يحاول إظهار حتمية استبدال النظام القديم بنظام جديد، ولكن النظام البديل ليس بالضرورة نظامًا أفضل». الفيلم مليء بالرموز التي تنتمي لهاتين الحقبتين، مما يضيف عمقًا إلى السرد ويعزز من فهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تجري في الخلفية. تتجسد هذه الرموز في العديد من العناصر البصرية والسمعية في الفيلم. على سبيل المثال، الثريا المضاءة بالشموع تمثل العالم القديم، الرومانسي والجميل، مقارنة بالكهرباء القادمة من المولدات التي تشير إلى الحداثة الجارفة. إنطفاء شموع الثريا يرمز إلى نهاية حقبة الأرستقراطية وانطفاء مجدها. تمثل الحيوانات مثل الفيل والحصان العجوزين، الماضي التقليدي والرفاهية الأرستقراطية، في حين أن السيارات والشاحنات الرأسمالية الجديدة تمثل التقدم الصناعي والاقتصادي الذي يسعى لمحو التاريخ والتقاليد.
الأرض، المعادل الموضوعي للإقطاع، تتآكل بفعل طوفان النهر، مما يعلن بوضوح عن نهاية مرحلة تاريخية تنقضي. هذا يشبه بشكل أو بآخر «بستان الكرز » لتشيخوف، حيث يُدمَّر البستان الذي يمثل الزمن الماضي لصالح التطور الحديث. يظهر القصر المتهالك للإقطاعي، والذي كان يومًا رمزًا للفخامة والسلطة، في مقابل، بيت «غانغولي » الرأسمالي الجديد، الذي لا نراه، ولكنه يوصف من قبل الخدم، يبدو مؤثثًا بأثاث إنجليزي حديث ولكنه يفتقر إلى الحديقة أو النافورة أو غرفة الموسيقى، مما يعكس افتقاره للعمق الثقافي والروح الفنية.
غرفة الموسيقى بداخل القصر، بجلالها الباروكي الباهت وأعمدتها الفخمة والمرايا الضخمة المطلية بالذهب، تعبر عن الذوق الفني والثقافة الرفيعة التي كانت سائدة في حقبة الإقطاع. فالإقطاعيين كانوا متذوقين حقيقيين للموسيقى، ورعاة لها ومن دونهم لم تكن الموسيقى لتزدهر على مدى فترات طويلة، بدءًا من فترة حكم المغول.
بحسب «راي» فإن الروح الأرستقراطية والإقطاعية للفيلم هي التي حددت طبيعة موسيقاه، لكنه يستخدمها هنا كخلفية لكشف الحالة النفسية والمعنوية للبطل بدلًا من التركيز عليها. «روي» هو بطل الفيلم الوحيد، تُعرض الشخصيات كلها من وجهة نظره هو. يتجنب «راي» إبراز الموسيقيين فتتجاهلهم الكاميرا بحركتها السريعة أو يتم التركيز على ما يحدث مع «روي» ومع الضيوف وتبقى الموسيقى في الخلف. تفتقر الشخصية المركزية إذًا إلى القدرة على التغيير. يُظهر الفيلم رجلًا محبوسًا في ماضيه، ويلقى نهايته بسبب عدم مرونته. نحن أمام بطل هيجلي بامتياز. يتحدث هيجل في كتابه فن الجمال عن هلاك البطل التراجيدي فيقول: «يهلك البطل التراجيدي بسبب التحيز الأحادي الجانب الذي يؤكد من خلاله على فكرته الجوهرية ضد فكرة فرد آخر أو ضد القوى العامة للحياة الاجتماعية».
نتعاطف رغم ذلك مع «روي»، فالرجل لا يعرف ما يحدث حقًا، لا يدرك آليات عمل التاريخ. تقابل مبالغاته الأرستقراطية المفلسة التي تسعى إلى تقديم بيان أخير يعكس نسبه الراقي وذوقه الرفيع، تقابل الطموحات المفرطة للطبقة التجارية الصاعدة، والتي يجسدها المرابي الطموح «غانغولي» والمدرك تمامًا آلية سير الأمور. يعاني مثل الأبطال في التراجيديا اليونانية من «الهيبريس»؛ التكبر أو الغرور الشديدين اللذان يدفعانه منذ بداية الفيلم إلى ارتكاب أخطاء تؤدي إلى تدميره في النهاية؛ أي استمراره في حفلاته الموسيقية رغم التدهور المالي الذي يمر فيه.
الموسيقى، التي كانت دائمًا رمزًا للجمال والفرح والسعادة، تتحول في هذا الفيلم إلى لحن يرتبط بالموت والدمار والإفلاس. تتسرب النغمات من بين أوتار الآلات لتنسج قصصًا حزينة عن النهايات المأساوية. هنا، حيث كانت الألحان تبُث في الأرواح روح الحياة، نراها الآن تُجسد صوت الغروب الذي يلفّ عالمًا أرستقراطيًا يحتضر، فيجعل من الموسيقى شاهدًا على سقوط العظمة وضياع المجد. يقول الشاعر بيرسي بيش شيلي في إحدى مرثياته:
«رياح عاتية، تئن بصوت عالٍ.
حزن عميق لا يصلح للأغاني؛
عاصفة حزينة دموعها عبثية،
غابات عارية تتشنج فروعها،
كهوف عميقة وبحر كئيب،
ينوحون على أخطاء العالم!»
اقرأ أيضا: لـ جون فورد عناقيد العنب.. ومن جون شتاينبك عناقيد الغضب