في عالم السينما، لا تكفي «الهبّة» لصنع فيلم ناجح، تمامًا كما لا يكفي البرق لإضاءة مدينة بأكملها. من المؤسف أن نرى محاولات حثيثة لاختزال صناعة ثقيلة في استقراء سطحي وظاهرة اجتماعية مؤقتة نجدها في المدن الكبيرة وأشعلت جذوتها منصات «السوشال ميديا»، واختصار صناعة ممتدة عبر عقود من التراكم الفني والمعرفي في «صيغة ترويجية» أو «هبّة ذكية»، وكأن الجمهور السعودي مجرد تكتل غوغائي لا يميز بين البريق الزائف والعمل المتقن.
قرأت ما كُتب في مقال «صناعة «الهَبّة»: الطريق إلى النجاح في شباك التذاكر السعودي»، ولم أجد فيه سوى استسهال وتسطيح فجّ، لا للفن فقط، بل للعقل أيضًا. فهل فعلًا يمكن اختزال الحرفة السينمائية بفنونها المعقدة من كتابة وإخراج وتصوير ومونتاج وتوزيع وتسويق في «هبّة» لحظية قائمة على خدعة بصرية أو إثارة عابرة؟ وهل أصبح التسويق أهم من المضمون إلى هذا الحد؟
أخطر ما في الأمر هو أن المقال يتعامل مع «الهَبّة» على أنها استراتيجية مهمة، لا كأداة ضمن ترسانة من الأدوات التسويقية التي قد تنجح وقد تخفق. بل يُلمح إلى أنها بديل عن الصناعة وجوهرها الفني، وليست مجرد عنصر مكمّل لها. وهذا، في عمقه، ضرب من العبث لا يليق بمهنة قائمة على التراكم، وعلى احترام الجمهور لا خداعه.
الترويج مهم؟ نعم. التسويق عنصر أساسي؟ بالتأكيد. لكن أن يُكتب مقال بهذا المستوى الركيك، وبهذه السطحية، ويدّعي امتلاك وصفة النجاح في شباك تذاكر أصبح الأكبر في المنطقة في فترة قياسية، فهو إهانة ليس للصناعة فقط، بل للعقل النقدي كذلك.
ألم يسأل كاتب المقال نفسه: من هم أصحاب «الهبات» الزائفة الذين لمعوا واختفوا؟ وأين هم اليوم؟ وأين صانعو الفن الحقيقيون الذين تُدرس أعمالهم وروائعهم إلى وقتنا الحالي؟ هل من كتب «الهَبّة» سيُذكر يومًا ما كمرجع؟

هل كان نجاح فيلم «Forrest Gump» في شباك التذاكر الأمريكي وتصدره مبيعات الأفلام لعام 1994 وفوزه بست جوائز أوسكار، وإضافته لمكتبة الكونجرس عام 2011، كأحد أهم الأفلام الأمريكية في التاريخ نتيجة «هبّة»؟
هل كان نجاح «Reservoir Dogs» والذي صدر في عام 1992، ونجح في شباك التذاكر بلا تسويق وبميزانية ضئيلة، وكان باكورة الأعمال السينمائية للمخرج كوينتن تارانتينو، وتم تصنيفه من قبل مهرجان Sundance السينمائي في عام 2024 كثاني أفضل فيلم في «قائمة أفضل عشرة أفلام سينمائية في التاريخ» التي نشرها المهرجان في ذكراه الأربعين، بناءً على تصويت 500 صانع أفلام وناقد نتيجة «هبّة»؟

هل كان نجاح فيلم «Mad Max» عام 1979، الذي جعل السينما الأسترالية حديث العالم والذي كان يحمل الرقم القياسي عالميًا في فئة أرباح الأفلام مقارنة بميزانياتها لمدة 20 سنة وصنع سلسلة سينمائية صدرت أحدث إنتاجاتها العام الماضي نتيجة «هبّة»؟
هذه بعض الأمثلة من قائمة لا يمكن حصرها من التحف السينمائية الخالدة التي تستحق أسمائها أن تزيّن أسطر سلسلة مجلدات وليس مقالًا.
صناعة الفيلم ليست صدفة ولا مزاج ولا حملة مدفوعة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إنها بنية، طاقم، مدرسة، لغة، فكر، ومنظومة متكاملة من الجهد والاحتراف. كل مجهود يبذل في سبيل اختزال هذا الإرث العظيم في مجرد «هبّة» هو جريمة لغوية وفكرية يجب التوقف عندها.
ختامًا، «الهَبّة» قد توصل عملًا إلى الناس، ولكنها لا تصنع قيمة. أما الفن الحقيقي، فيصنع القيمة أولًا، ثم يبحث عمّن يقدّرها.
اقرأ أيضا: الضوء كراوٍ صامت: حين يتقمّص النور دور البطولة في السينما