بمناسبة مرور 40 عامًا على خروج «عنوان مؤقت» لمصطفى الدرقاوي، أسعى من خلال هذه المقالة لقراءة جديدة في ثيمات وجمالية هذا العمل المهمّ، في ضوء أطروحة مفادها أنه يشكل إلى جانب «أحداث بلا دلالة» (1974) و«أيّام شهرزاد الجميلة» (1982) الضلع الأخير لثلاثية يمكن أن نطلق عليها اسم «ثلاثية عدم الاكتمال».
ينطلق «عنوان مؤقّت» (1984) بلقطة عامّة لبلاتوه تصوير بالمدينة القديمة يطلّ على ميناء الدار البيضاء وصرخة المخرج مصطفى الدرقاوي المدوّية لتشجيع فريقه: «يلّاه… يلّاه». يصل المنتج الفايدي ويسأل عن دواعي تسجيل الصوت ودوران الكاميرا مادام التصوير لم يبدأ بعد. «من أراد أن يرتجل، فليفعل ذلك بنقوده» يقول الفايدي بتبرّم. فوضى منظّمة تسود المكان، درّاجات نارية تمرّ وسط البلاطو، بينما نسمع جملًا مجتزأةً وحوارًا متداخلًا. يقذف بنا الفيلم، منذ البداية، في أجواء عدم الاكتمال، لكن هذا لا يمنع أنّنا بصدد أجمل احتفاء بما يجري وراء كاميرا تصوير فيلم في السينما المغربية، ما يذكّرنا بـ«اللّيل الأمريكي» لفرانسوا تروفو.
«الظلام من هنا لشوية غادي يطيح علينا بحال شي قدر» يقول مدير التّصوير كريمو (عبد الكريم الدرقاوي) لنفسه وبالكاد نميّزه وسط عتمة الغروب مع آلة قياس الضوء في يده. ما إن تشتعل المصابيح حتى نرى ممثّلة جميلة وراء مقود سيارتها. إنّها ثريّا جبران التي تلعب دوراً في «النّاعورة» (1984)، فيلم عبد الكريم الدرقاوي الأول كمخرج (مع مولاي دريس الكتاني الطويل عن سيناريو شاركهما في كتابته مصطفى الدرقاوي)، وسنرى فيما بعد بلاتوه تصوير أحد مشاهده. نعم، نحن لسنا بصدد تبئير مرآوي لفيلمٍ داخل الفيلم فحسب، بل بعمل يخلط الأوراق بين عدّة مستويات من الحكي، السينما والحياة، الواقع والمُتخيّل.
في المشهد الموالي، يلتقي مصطفى وكريمو في شقة الفنّان التّشكيلي فريد بلكاهية (الذي يلعب دور المخرج في الفيلم الذي يُصوّر). يشرب كريمو كأسه دفعةً واحدة ويبادر مصطفى المنهمك في رقن السيناريو على الآلة الكاتبة: «يلاه نمشيو آمصطفى…كنتكلّم معاك… علاش كدّير براسك بحالا ما كتفهمش». «كنحاول ما نسرعش باش نتلافى الأغلاط» يجيب مصطفى. فيقول أخوه «هاد لكلام عاودو للآخرين، أما أنا كنعرفك مزيان. نمشيو هي نخويو لبلاد».
يخرج كريمو غاضبًا كصوت ضمير لم يُستجب له. وفي أحد المشاهد تقول ثريّا جبران: «ملّي كيعيط عليّ كريمو تيسحاب لي مصطفى… الأصوات كتشابه»، وكم هي على حقّ. صوت مصطفى وكريمو واحدٌ مع أنّهما اثنان، لكنّ قوّتهما وتفرّدهما في اختلافهما الجوهري. فكريمو الودود، الحليم في سلوكه، يكتنز قوّةً وصلابةً في داخله، ومصطفى الصّارم في طباعه ونظراته هو إنسانٌ عاطفي العمق. في لقطة معيّنة، يسأل أحدهم كريمو «نتا مالك قاسح مع مصطفى؟»، فيجيب «حيت عمري ما كنت ليّن مع نفسي». يسلّم مصطفى العنان للحلم والمثالية، لكن كريمو لا يلبث يذكّره بإفتاءات الواقع. مصطفى هو القلب الذي يختلج بالمشاريع والخيال، وكريمو العين التي ترى الأشياء بمنظور العقل. مدراء التصوير يكرهون أن تظل الأشياء ضبابية، لذا هم يبحثون عن أفضل تبئير. ليس صدفة ربما أن اللّقطة الوحيدة التي كانت خارج التبئير في الفيلم هي التي تسبق موت المخرج، لكن تلك قصّة أخرى.
إذن، من بين ألف تفصيل وتفصيل «عنوان مؤقّت» هو أيضاً فيلمٌ مؤثّر عن رابط الأخوة. حين يتعرّض مصطفى للضّرب أثناء شجارٍ خارج الحانة، فإنّ كريمو هو من يسند ظهره وسط الظّلام كما يفعل كل مدراء التصوير المخلصين لمخرجيهم. وحين يضيق الطفل كمال ذرعاً بالعلاقة المتوترة بين أبيه مصطفى وأمّه خديجة، فإنّ كريمو هو الذي يذهب لملاقاته في مشهد جميل وسط مقهى «فضاء ياسمينة» المختفي من وسط الدار البيضاء، ليحبوه بوصايا تنهل من وظيفة السينما في التّهذيب، والتّربية، والحضّ على احترام حرية الآخر «كلّ واحد يعيش كيف بغا… في الفقر أو الرّفاهية… في الفقر لذّة وشعور أكثر بالإنسانية». يشتغل هذا المشهد كرجع صدى لمشهد آخر مشابه يرد في القسم الأخير من الفيلم، حين يذهب مصطفى إلى بيت بلكاهية ويجد الشاب عمر الشرايبي رفقة خطيبته سعاد هناك، فينشب بين الثلاثة حوارٌ محموم حول معنى الفنّ وتجلّيات الحرّية.
«عنوان مؤقّت» هو فعلاً فيلم رجع صدى، تختلط فيه الأصوات، وتمتزج طبقاتها تأثّراً بجان لوك غودار، تتشظّى فيه الحكايا، وتنزاح منه الأطروحات منفلتةً باستمرار نحو أفق أبعد، كما تصنع شهرزاد بحيلة حكاياتها للملك شهريار في «ألف ليلة وليلة» كي تؤجّل موتها كل مرّة. أطروحتي هي أنّ «أحداث بلا دلالة» (1974) و«أيّام شهرزاد الجميلة» (1982) و«عنوان مؤقّت» (1984) هي أسماءٌ مختلفة لفيلم واحد في نهاية المطاف. ألا يصنع الكبار فيلماً واحداً ووحيداً يرونه من وجهٍ مختلفٍ بمناسبة كلّ عمل جديد متوهّمين بقدرتهم على ختم مشروعهم في كل مرّة؟.
ولعل الوقت حان لإخراج هذه الثلاثية في علبة واحدة تسعف السينفيليين والباحثين لينظروا إلي أجزائها كوحدة ويستجلوا غناها والحوار الجمالي الرفيع القائم بينها، خصوصاً بعد أن أسهم ترميم «أحداث بلا دلالة» بجهود محمودة قادتها الباحثة ليا موران في إعادة الاعتبار لهذا العمل المتفرّد، فحظي بحياة جديدة بتظاهرات رفيعة (في مقدمتها مهرجان برلين) ونشرت حوله مقالات إشادة في صحف ومجلات عالمية مرموقة أعادت تسليط الضوء على منجز مصطفى الدرقاوي.
في مشهد ما قبل الختام الذي يحاول فيه الطاقم تصوير مشهد منقوص من «أيّام شهرزاد الجميلة»، تقول الطفلة موجة المليحي «إيلا ما كنتيش مستعدّ تموت أو تقتل باش تدير داكشي لي خاصو يدّار من أجل فيلمك هي شي ما كاين». هل هناك تعريف لمعنى السينما المستقلّة أقوى من هذا؟
يقول فلاديمير جانكيليفيتش حول سبب تسمية كتاب حواراته «في مكانٍ ما من عدم الاكتمال» Quelque part dans l’inachevé، أن مالتي، بطل رواية راينر ماريا ريلكه «دفاتر مالتي لوريدس بريدج»، يفسّر عدم ثقته في الموسيقى قائلًا «ليس لأنّها ترفعني بعنف خارج ذاتي، أكثر من أي شيء آخر، بل لأنها تضعني في مكانٍ أقلّ ارتفاعًا من الذي وجدتني فيه». ولعلّ هذا ديدننا مع سينما الأخوين الدرقاوي التي ترفعنا إلى قممٍ شاهقة من التّشبّع بقيم الفنّ الحقّة، وحين تضعنا نجد في أنفسنا شعورًا غريباً بشيء ينقصنا أو بالحنين إلى شيء فقدناه في الطّريق، ليس سوى مرادفًا للسّعي إلى الاكتمال والإحساس الوجودي بحتمية الموت، وعبثية الصراع مع المطلق. تساؤلاتٌ لا تنضب، خواطرٌ مفعمة بصدق لا يوصف، والشّرارات المُلهمة، وروحٌ توّاقة لتجاوز فجاجة الواقع.
لقد صنع مصطفى الدرقاوي، أبرع سينمائيي جيله بتعبير الفقيد نور الدين الصايل، في ثلاثيته التي يمكن أن نطلق عليها «ثلاثية عدم الاكتمال» La Trilogie de l’inachèvement، صنع شيئًا عظيمًا يشبه ما حقّقه فيما بعد عباس كيارستمي في «ثلاثية كوكر» انطلاقًا من «أين منزل صديقي؟»، وصولًا إلى «ما بين أشجار الزيتون» حين تمثّل في كلّ عملٍ الفيلمَ السابق وكأنّه خيال أو فيلم قيد التّصوير، إلى أن وصل إلى المشهد الأسطوري لرجع الصّدى بين الجبال (في «عبر أشجار الزيتون»،1994) بين المخرج ومن يلعب دوره في الفيلم وكيارستمي مخرجًا ثالثًا وراء الكاميرا، تماماً كما يقف مصطفى وفريد بلكاهية الذي يلعب دوره، وعمر الشرايبي المخرج الشاب أو البديل، في مشهد نهاية «عنوانٌ مؤقّت» الذي أعتبره أفضل نهاية لفيلم مغربي (بالتّساوي مع نهاية «شاطئ الأطفال الضائعين» للجّيلالي فرحاتي)، ولا أخفي أن دمعةً تتسلّل إلى عيني عندما يقول عمر «الفنّ كياكل مولاه، كيشرب دمّو إلى آخر نقطة. ما كيأثتش المكاتب ويضاعف الأرباح. هذا ما كان. إما السينما كيفما كنتي تتشوفها ديما وإما احفر قبرك وتّردم فيه».
يصرّ كريمو على تصوير المشهد كما كُتب في السيناريو قائلًا «كيف غيدير المتفرّج يتبّعكم إيلا كلّ مرة نقصتو ليه شي حاجة»، بينما يهمس مصطفى لعمر أنّه سيحذف المشهد في المونتاج حتّى لو صُوّر، قبل أن ينسحب (بعد أن يمرّر الشاهد إلى بديله الشاب) ليلقى الموت في الظّلام بينما تتطاير أوراق عقود الإشهارات واتفاقات الإنتاج المشترك فوق رأسه. هل هناك، بالله عليكم، صورةٌ تتمثّل تحدّيات السينما المستقلّة ببلاغة أدلّ من هاته؟ «إما السينما كيفما كنتي تتشوفها ديما وإما احفر قبرك وتّردم فيه».
اقرأ أيضا: أحسن 20 فيلمًا عربيًا في 2024 (قائمة شخصية)