استغرقت دوائر السينما العالمية نحو ثلاثة عقود، قبل أن تلتفت أخيرًا إلى واحد من أهم الأصوات السينمائية القادمة من القارة السمراء. فعلى الرغم من ان عبد الرحمن سيساكو المخرج الموريتاني/ المالي أعلن فيلمه الأول للعالم في 1988، انتظر حتى العام 2014 ليتلقى الاعتراف الذي يستحقه عندما نافس فيلمه تمبكتو على السعفة الذهبية في كان وترشح لجائزة افضل فيلم أجنبي في مسابقات الأوسكار.
والآن بعد أشهر قليلة من عودته إلى كان بفيلمه الأحدث «شاي أسود» الذي يستمر فيه انشغاله بقضايا العولمة وأثرها على المهمشين، يحل سيساكو ضيفًا على المملكة العربية السعودية ليحاضر شباب مخرجيها في صناعة السينما استجابة لدعوة هيئة الأفلام السعودية، ليقدم ورشة عن مهارات وأساليب السرد القصصي السينمائي، حيث التقته فاصلة.

قبل بدء محاضراته في المملكة، بدأ سيساكو بمقابلة نحو خمس وعشرين من شباب المخرجين والكتاب الذين اختيروا لحضور ورشته، ولفتته أعمارهم الصغيرة بشكل واضح. يعلق سيساكو لـ «فاصلة»: «إنها تجربة رائعة حقا، إنهم هادئون جدًا ويستمعون جيدًا ولديهم نهم للتعلُّم، وكان من المهم أن أقابلهم معًا لأتأكد من شغفهم بصناعة السينما».
اهتم سيساكو ببث الحماس فيمن قابلهم من المنضمين لورشته، وأكد لهم أن لديهم القدرة على صناعة الأفلام، وأنه ليس أمرأ صعبًا: «قلت لكل منهم، ستصاب بالإحباط فقط إذا اخترت الطريق الخاطئ لصناعة الفيلم ولكن إذا فهمت أن شخصيتك ومجتمعك والمكان الذي تعيش فيه أمور مهمة للغاية؛ تصبح عندها صانع أفلام».

قبل عام 2018، لم تكن هناك دور أو شاشات عرض في السعودية، وكانت القرصنة عبر الإنترنت أو وسائط التسجيل الخطية (كالشرائط) أو الرقمية هي السبيل لمشاهدة إنتاجات السينما العالمية، الآن يوجد في السعودية مخرجين يتطلعون إلى أن تُعرض أفلامهم في المهرجانات الدولية الكبرى ويجدون في الوصول لتلك المهرجان اعترافًا وحيدًا بجهدهم وموهبتهم. سألنا عبد الرحمن سيساكو عن رأيه في هذا التصور المنتشر بين صناع السينما السعدية الشباب، فرد عليه:
لا! هذا خطأ بالتأكيد، فإذا فكرنا كذلك، سنخسر جيلًا من صناع الأفلام.
ويرى سيساكو أن على صناع السينما السعودية أن يدركوا أهمية ما يحققونه في بلدهم، فمنها فقط يبدأ النجاح. يواصل: «حدث شيء كبير بالفعل في هذا البلد، شعرنا به جميعًا وشاهدناه. ولا بد أن يفهم الشباب ذلك لكي يستطيعوا توظيف قدرتهم على صنع الأفلام. أتحدث مع من يحضرون ورشتي عن السينما الإيرانية، لماذا نعتبرها قوية؟ هي قوية بثقافتها ورؤيتها البسيطة، تهتم بأوضاع مجتمعها وما يدور فيها، ومن هنا اختيرت لتتوج بالجوائز في المهرجانات العالمية».
نسأله: لكن السينما الإيرانية عرفها العالم من خلال المهرجانات، ألا يعد ذلك شهادة على أهمية المهرجانات لصانع السينما؟
لم أجادل في أهمية المهرجانات، لكن هناك مشكلة في صناعة الأفلام بهدف المشاركة بها في المهرجانات. صناع السينما الإيرانية لا يروون قصصهم لأنها تعجب المهرجانات، بل لأنها قصص تحركهم ويهتمون بها ومعبرة عن هموم مجتمعهم. المهرجان هو فقط منصة تحتاجها السينما كي تُرى، كي يمكننا مشاهدة الأفلام وتبادلها، ولنقول أن هذه هي رؤيتنا في الحياة، يمكنك الذهاب إلى المهرجان بدون جعل هذا هدفك لأنك ستفقد بساطة السينما. فإذا صنعت شيئا بسيطا، يمكنك أن تذهب به بعيدا. ولكن إذا أردت فقط أن تكون معروفا، فستكون كذلك لفترة قصيرة جدا وهذا خطير على صناع السينما لأني وجدت مخرجين جيدين أحبطوا وتركوا السينما الحقيقية وراءهم لأنهم لم يوفقوا في الوصول للمهرجانات.

وعن خطوات صناعته للأفلام، يقول سيساكو لـفاصلة، إن البداية دائمًا هي القصة، والرؤية والهدف الذي يرغب في إيصاله من خلالها، لا بد أن يكون هذا العنصر واضحًا لديه ومدروسًا جيدًا قبل المضي في بقية الخطوات.
يقول المخرج الموريتاني: «أسأل نفسي: لماذا أريد عمل ذلك؟ الإجابة عن هذا السؤال قد تستغرقني أشهرًا طويلة، وربما اكثر. ولهذا السبب قد استغرق خمس سنوات أو أكثر لصنع فيلم. مع أنني لو أردت أستطيع عمل فيلمًا كل سنتين، لدي تلك القدرة لكن هذه ليست شخصيتي، ولكني أن أصنع فيلمًا مهمًا لمجتمعي وتاريخ قارتي، ولهذا السبب تعيش أفلامي وتستمر في العيش بسبب أهمية المعنى الذي تريد إيصاله.
الأمر الثاني هو أن أُحكِم حضور سردي ولغتي، فلا بد أن يكون لكل منا لغته السينمائية، وألا يصبح مجرد صدى للسينما التي يشاهدها، بمعنى ألا تقول: سأصنع فيلمًا مثل هذا لكي أذهب إلى هوليود.
يمكن للسينما أن تكون متغيرة جدًا وممكن أيضًا أن تكون بطيئة، ولكن أهم شئ هو ألا تحاول تقليد أي صانع أفلام فقط يمكنك أن يكون لديك نفس إحساسه».

على الرغم من تاريخه الطويل في حصد الاهتمام والتشجيع النقدي، لم يستقبل النقاد فيلمه الأحدث «شاي أسود» بالحماس نفسه الذي استقبلوا به أفلامًا سابقة، عندما سألناه عن شعوره تجاه الجفاء النقدي الذي ووجه به فيلمه الأخير، أكد سيساكو اأنه لا يتوقف كثيرًا عند رفض النقاد أو عدم ترحيبهم بفيلم له، «الفيلم يعكس تصور صانعه، ويعتمد هذا التصور على عوامل عديدة، وقد ينتظر الناس منك شيء يحتاجون إليه ويكون مختلفًا عما تراه، حيناه من المتوقع والمنطقي ألا يكون هناك ترحيب بالفيلم».
نسأله: لكن الجمهور لا يفهم الفيلم بنفس طريقة كتابتك له، ما رأيك؟
يقول: «هذا حقيقي، لكن الأمر يختلف بالنسبة لي، لا بد أن أشارك ما برأسي حتى لكي أشعر بصلة مع الفيلم».
وعلى الرغم من أنه يحيا في فرنسا لفترات طويلة، إلا ان قارة افريقيا وسكانها لا يزالون هم أبطال أفلامه، وهو ما يفسره في حديثه مع فاصلة بقوله: «أعتقد أن الأمر يعتمد على نظرتك له، فأنا استخدم أفريقيا لكي أتكلم عن الإنسانية، ولكي ينجع أي صانع أفلام في ذلك، يجب أن يكون له القدرة على استخدام كل ما يملكه، وكذلك ما لا يملكه؛ وهذا هام جدا لأن ما لا تملكه هو جزء من نشأتك، ما تملكه لا يكون مثيرا للاهتمام، أما ما لا تملكه فهو مهم جدًا. أرى أن الناس وخاصة الشباب ليس هنا في السعودية فقط؛ ولكن رأيت ذلك في أماكن مختلفة حتى في بريطانيا وفرنسا الكثير منهم يفتقدون إلى غِنى العقل وهذا مهم جدا وصعب جدا في تعلمه وتطبيقه».

كيف تصف السينما التي تنتمي إليها؟ وهل يضايقك اعتبارك من مخرجي الرسائل السياسية والاجتماعية؟
لا؛ لا أنشغل بهذا. وأرى أن السينما واحدة من وسائل الإعلام الرائعة لأنها متنوعة في ما تقدمه فلديك الكوميديا والدراما والفنتازيا وهي أيضًا تثقيفية، فدور السينما هنا في المملكة مثلًا، يجب أن يكون مختلفًا. فلو لم يكن للسينما دور تثقيفيّ لما قامت السينما السعودية، سيستمر الناس في صناعة أفلام بالطبع، سيجدون منتجين ومالا يمكِّنهم من ذلك.
لا أعرف كم فيلمًا صنع في السعودية هذا العام قد يكون عشرين أو خمسين وقد يصل الرقم إلى مائة ومئتين ولكن ليسوا ممتعين للجمهور غير السعودي ما لم يعكسوا الهوية والقضايا السعودية، وكذلك هوية صانعيها، فأن تصنع فيلمًا يعكس هويتك ورؤيتك؛ هذا ما يضمن لسينماك البقاء والنجاح ولو بعد عقود طويلة.

وكيف ترى مستقبل السينما في ظل سيطرة الوسائط الرقمية ومنصات العرض؟
مستقبل السينما هو مستقبل العالم. لا يهم شكل العرض وطريقته أو حتى طريقة وتقنية صناعة الصورة، السينما ولدت صامتة أبيض وأسود، ثم تطورت فدخل الصوت وتغيرت طريقة التصوير فاليوم تستطيع فعل ما يبدو لك باستخدام طائرات الدرونز، ولكن يظل أهم شيء هو القصة والمشاعر.
عندما شاهدت فيلمك الرائع «تمبكتو »، قرأت تقييمًا يقول أن عبد الرحمن سيساكو يظهر الجهاديين بشكل إنساني، هل هذا صحيح وهل تعتقد أن الجهاديين متشابهون حول العالم؟
بالطبع أفترض ذلك، أنا أظهر الجهاديين بشكل إنساني لأنهم أناس مثلي، بالتأكيد لن أفعل ما يفعلون، ولكننا بحاجة إلى أن نفهم ونرى أن بداخل كل جهادي إنسانية يجب أن نحميها ونزيدها، ولا بد أن يساعدهم الناس على التغيير، ولهذا السبب أحاول أن أصور الجهادي على أنه إنسان عادي.

بعد أكثر من عشر سنوات على «تمبكتو»، اعتقد كل الناس أنك ستعود في فيلمك التالي إلى أفريقيا، ولكنك ذهبت بـ «شاي أسود» إلى آسيا، فلماذا اخترت أن تغير طريقك؟
هوية الفنان لا ترتبط فقط بالدولة أو القارة التي عاش فيها، أن تكون فنانًأ يعني أن تكون إنسانيًا، ولهذا السبب عندما أذهب إلى آسيا، آخذ جزءًا من أفريقيا بداخلي، لا يمكنني الذهاب إلى آسيا بدون أفريقيا، فأفريقيا بداخلي طوال الوقت لأني أريد احترام هذا الطابع في أفلامي. فمثلا المهاجر ليس شخصًأ بحاجة إلى المال فقط، المهاجر هو شخص مثلي ومثلك، لقد رأيت ذلك وأريد التحدث عنه، إنها الحرية للذهاب لأي مكان، يمكن لعياشي أن يقرر الذهاب إلى الصين والتعرف على شخصًا ما أو لا، فأريد ألا أكون مقتصرًا بشكل كبير على أفريقيا.

كيف تتعامل مع الممثلين؟ ففي كل الأفلام لا يكونوا على نفس المستوى من الاحترافية، فكيف تخلق التناغم بينهم؟
في بعض الأحيان يكون من السهل العمل مع ممثلين احترافيين، ولكن في تجربتي خاصة أنه في أفريقيا لا يوجد مدرسة للفن أو مسرح فلا تصدق أنه يمكنك العمل مع من يرغب بالتمثيل، فالفكرة في الواقع وكيف تصور واقعك وتتقبله. فقد عشت في موريتانيا، أذهب إلى الصحراء وأترك بيتي بكل وسائل الراحة فيه، معي خيمة صغيرة أحتسي الشاي ومعي صديق لي، هذا يشعرني أني ملكت العالم.
اقرأ أيضا: «شاي أسود»… عودة سيساكو بلا طعم ولا رائحة