ولدت السينما تجريبية، وستظل كذلك ما ظل الضوء، فإرهاصات السينما ابتدأت بمغازلة الضوء والظل، وهذا ما يجعل التجريب هو الأساس الأول للإبداع، وعمود خيمتها الذي متى ما اهتز؛ أنذر بالخطر.
التجريب يفتح أعيننا على أقصاها بمقدار ما يبذله المخرج من تحديق طويل؛ ليخرج بقرار يشاركنا فيه رؤيته للعالم، متيحاً بكرمه الجم استعارة عينيه للنظر طوال وقت الفيلم، وهذا ما يجعل السعادة تكسو محيا المخرجين؛ كلما شاركهم المشاهدون الوصول إلى الزوايا المختبئة في الفيلم. إن هذا ما يجعلنا نظل مدينين لكل المحاولات الأولى التي غزلت عباءة الفن السابع، وفتح آفاق جديدة لكل ما نشاهده اليوم، وغداً، وبعد الغد، فعجلة الإبداع السينمائي تدور، ما دام التجريب يقود لجديد.
إن اختبار كل فكرة؛ يقود المخرجين بجرأة لخوض مغامرات جديدة، فماذا عن العودة للخلف؟
إنه قرار لا يقل جرأة عن تجربة شيء جديد، فاستعادة القديم نوع من التجريب في عصر مختلف، وهذا لون مطروق على صعيد الفنون كلها، والسينما هاضمة الفنون، فلا مفر من الجرأة والالتفات للبدايات، ومغازلة ما غرسه الأوائل من الرواد، والامتنان لهم كما نشاهده عند كوينتن تارانتينو -على سبيل المثال- في فيلمه «حدث ذات يوم في هوليوود»، أو بالقرارات الإخراجية عند ألفونسو كوارون في فيلمه «روما» والعودة لسحر الأبيض والأسود الذي أكسبه بتكامل العمل -لا بخيار الألوان- التقدير الذي يستحقه.
السينما الصامتة
هذه المرحلة التي أنطقت الجمهور ثناءً على ما يشاهدونه دون صوت، وحتى نكون منصفين، لم تكن صامتة تماماً، فالصمت المطبق ممل، وهذا ما جعل الأوائل يُدخلون الموسيقى وسيطاً معبراً أمام عجزهم عن تسجيل الحوار آنذاك، ولذلك من يراهن عائداً لهذا الخيار؛ نصفق له ابتداءً لجرأته على خوض تجربة بعد تشبع الجمهور برفاهية السينما على صعيد الصوت والصورة.
هذا ما فعله المخرج عمر بكري في فيلمه عبده «وسنية» الذي تم عرضه في الدورة الرابعة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي ضمن روائع عربية، وقد جاء في تعريف الفيلم على موقع المهرجان بأنه «تذكير رائع لقوّة الأفلام الصّامتة، حيث تمّ تصويره بلا حوار، وبالأبيض والأسود الدّراميّ» وهذا ما يحفز لرؤية مثل هذه التجربة في 100 دقيقة!
أفق الانتظار
الدخول بسقف مرتفع مضر دوماً، وخاصة حين يأتي التحفيز بختام تعريف الفيلم بما نصه «من المؤكّد أنّ جمهور جدّة سيتمّ أسره بهذا النّهج المبتكر لأسلوب سينمائيّ مغاير»، وبمعطيات تسوغ مثل هذا الانتظار مثل مشاركة محمد حفظي في إنتاج هذا الفيلم مع جازيل مارتينو، وانجي الجمال التي شاركت في البطولة أيضاً.
محمد حفظي نجح في كثير من الأفلام التي نشاهدها مؤخراً، ونثني على مستواها الفني، وهذا ما يجعلنا مطمئنين للدخول إلى مغامرة بمشاهدة فيلم طويل من هذا النوع، فتجربة شابلن -إن كان الدافع لها الحنين- لم تعد فاعلة على الدوام، فقد عوضها روان أتكينسون في «مستر بين» بمقاييس هذا العصر، فهل العودة إلى السينما الصامتة وحده كافٍ؟ لا أظن، فمثل هذا الخيار رأيته في السعودية عام 2005 و2013 مع حداثة تجربتها، فقد جاءا الفيلمان القصيران: «القطعة الأخيرة» لمحمد با زيد، و «نص دجاجة» لعبدالله أحمد؛ حنيناً لشابلن والسينما الصامتة، ولكن أن يكون الفيلم طويلاً، وبهذا الإنتاج والتقديم، فلا بد أننا أمام تجربة تستحق!
المبالغة
تعتمد الأفلام الصامتة على المبالغة في الإيماءات اضطراراَ للتعويض عن الصمت، وهذا ما يحفز الجمهور للضحك والسرور بما يقدمه شارلي شابلن وجيل الأوائل، وإن كان الأمر لا يتجاوز النستولوجيا لما مضى؛ غير أن معايير الكوميديا وقواعد اللعبة اختلفت بتقدم الزمن. لم يكن عمر بكري من قام بالإخراج والكتاب والبطولة ناسخاً لكل ما جاء في السينما الصامتة، فشاربه أعرض من شارب شارلي شابلن، وأداؤه لم يكن مبالغاً كما هو حال شفتي شابلن، وإن كانت تلك الخيارات هي الوسيلة المنقذة للسينما الصامتة، وهذا ما جعل مرحلة الانتقال من تلك الحقبة لما بعدها صعبة على بعض الممثلين، بل ورفضها من قبل شابلن على سبيل المثال، أو السقوط في الحرج عند النطق كما حدث لجون جيليبرت، وهذا ما يجعل من النطق اختباراً حقيقياً للأداء، والاستعاضة بالصوت بدلاً من مبالغة الأداء.
الافتتاحية والختام
ابتدأت اللقطات جاذبة، وكأننا أمام فيلم «الأرض»، والحقل المصري، وتفاصيل المكان والإنسان، وهذا بحد ذاته مبشر بفيلم يستحق هذا الانتظار، ولكن بعد مضي الوقت، وسير الأحداث، يحق لي مشاهداً أن ألوم المخرج على خيار المئة دقيقة! إن هذا العصر لا يتقبل طولاً غير مبرر من أجل التجريب، وخوض هذا التحدي المقدّر، كان من الممكن أن يأسر المُشاهد في وقت أقصر، وألّا يجعل له (ولكن) التي تفسد جمال ما تم تقديمه.
عندما يطول السرد، وتمتد الرحلة، يضع السينمائي نفسه أمام خيار صعب، وهو من يعلم أن خيار الأفلام القصيرة عند شابلن أكثر من الطويل، فلماذا اختار أن يسلك الصعب أمام خيار أسهل يضمن متعة المشاهد؟ لماذا لم ينتصر للمُشاهد على تقديم نرجسية المخرج المشروعة فضلاً على الكاتب والممثل معاً؟ كان من الممكن في وقت أقل أن ينتصر المخرج والممثل والكاتب والمُشاهد، وأن يصون للتجريب مكانته كقلب نابض للسينما التي تحيا بمقدار ما تتدفق مثل تلك التجارب الرافدة في نهر الشاشة الفاتنة كل يوم.
يبقى لعمر بكري شكره على جسارته في اختيار هذا المسلك الصعب، وحتماً مثل هذه الجسارة كفيلة بتجارب واكتشافات جديدة وغير متوقعة. موقنين بأن خيار التجريب أولى من عدمه، لأن السينما دون تجريب؛ مآلها للتوقف دون شك، ولا سبيل لمزيد من النمو والإبداع إلا بهذا الخيار الصعب، ولا نجاح دون مغامرة تحتمل عدم تحقيق ذلك.
اقرأ أيضا: «سنو وايت»… عندما يصبح العالم ساحرة شريرة