فاصلة

مراجعات

«عائشة لا تستطيع الطيران».. ليس لذوي المعدة الرقيقة

Reading Time: 5 minutes

نحن بصدد عاصفة جديدة ستهب على السينما المصرية هذا العام، محملة بأحاديث بعضها سينمائي ممتع، وكثير منها عبثي يفتقر لأبسط قواعد مناقشة الأعمال الفنية، معركة متكررة ستتصارع فيها الشعبوية والصوت المرتفع مع محاولة طرح الأسئلة البديهية حول ماهية الفن ومساحة الحرية المكفولة لصانعه ومتلقيه. سبب تلك العاصفة المتوقعة؟ «عائشة لا تستطيع الطيران»، الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج مراد مصطفى، والذي عُرض قبل ساعات ضمن مسابقة «نظرة ما»، ثاني مسابقات مهرجان كان أهمية.

اختيار الفيلم لتلك المسابقة تحديدًا، والتي يكشف عنوانها ما يحاول مبرمجوها فعله من التفتيش على التجارب الخاصة، والأصوات الخارجة عن المألوف، أمر لا يمكن التغاضي عنه ونحن بمعرض الحديث عن فيلم انقسمت ردود الأفعال حوله، فمن الحضور من غادر الفيلم في منتصفه بسبب عدم قدرته على تحمل مشاهده التي تحمل بعض الدموية أو العنف أو الصور غير المريحة، ومنهم من وقع في حبه ووجد فيه عملًا فنيًا أصيلًا، ومنهم كاتب هذه السطور.

يُخطئ من يتعامل مع «عائشة لا تستطيع الطيران» باعتباره فيلمًا عن معاناة مهاجرة سودانية تعيش في القاهرة وتضطر للعمل كخادمة وممرضة في البيوت لكسب عيشها. صحيح أن ذلك هو ملخص القصة، لكنه ليس جوهر الفيلم، هو مجرد مدخل إلى عالم البطلة، التي يحاول المخرج بدأب أن يجعلنا نعيش خبرتها بكل أوجهها: الواقعي والمُتخيل، الجميل والقبيح، الإنساني والحيواني، والأخير وجه بالغ الأهمية سنتطرق له في المقال، لكنه يصلح أن يكون مبحثًا مستقلًا لتحليل الوجود الحيواني المتزايد في السينما المصرية المعاصرة.

«عائشة لا تستطيع الطيران».. ليس لذوي المعدة الرقيقة
عائشة لا تستطيع الطيران (2025)

الواقعي والمتخيل.. هذا ليس فيلمًا عن المهاجرين

صاغ المخرج مراد مصطفى في أفلامه القصيرة الأربعة الناجحة «حنة ورد» و«خديجة» و«مالا تعرفه عن مريم» و«عيسى» بصمة بصرية خاصة متكررة، تتمثل في لقطات للكاميرا تصور الأبطال من وراء ظهرهم، تسير معهم لمسافات طويلة غير معتادة، نكتشف خلالها جغرافيا العالم من أقرب نقطة لوجهة نظر الشخصية. اللقطة تتكرر كالعادة كثيرًا في الفيلم الطويل.

يعني المخرج إذن بوضع المشاهد في وجهة نظر بطلته، التي اختار لها في حالتنا أن تمتلك سمة بصرية غريبة ملحوظة: لدى كل عين من عينيها لونًا مختلفًا، عين زرقاء وأخرى داكنة. اختيار لا يؤسس فقط لهامش الغرابة في حياة عائشة، ولكن يُمهد من الدقائق الأولى لازدواجية عالم الفيلم. هذا عمل يمكن ولوجه وخوضه وتأويله من مدخلين مختلفين دائمًا، في كل وقت وكل تفصيلة.

كل شيء يمكن أن يكون واقعيًا، مُشبعًا بمعاناة امرأة شابة كعائشة تخوض رحلة كسب العيش في مدينة صار العنف والتجاوز والعنصرية من مفرداتها اليومية، تحاول التلاعب بما تملك من أدوات محدودة كي تنجو، وتنتهك القانون أحيانًا رغبة في النجاة لا التربح. كل شيء أيضًا يصلح أن يكون خيالًا، محض أوهام يرسمها لا وعي فتاة رأينا أكثر من مرة كيف يقوم عقلها بمعالجة ما تقابله ويعيد تقديمه في صورة فانتازية، دموية في أغلب الحالات، وكأن الخيال تعبير عن عقلها الباطن الراغب في الرد على العالم بما يستحقه من عنف.

عائشة لا تستطيع الطيران (2025)
عائشة لا تستطيع الطيران (2025)

الجمال والقبح.. والخطوط الفاصلة بينهما

من أكثر الأفكار الخاطئة التي تتردد في الأحاديث الإعلامية المتعلقة بالفن في مصر ما يتعلق بما يسمونه «جمالية القبح»، وكم من سمعنا مخرجًا أو ناقدًا يحاضر فينا عن ضرورة بحث الفنان عن الجمال، حتى لو كان يصوّر كومة قمامة. العبارة بشكل عام صحيحة، لكن ينقصها تعريف الجمال نفسه، وهل يعني ما تعارف عليه الناس بما صار مرتبطًا لدى الغالبية باستجابات ما، كالتفاعل مع الروائح مثلًا، والتي تكشف الممارسة عن كونها في الأعم استجابات مكتسبة، بدليل وجود روائح أطعمة تثير شهية سكان بعض البلاد بينما ينفر منها أبناء بلاد أخرى.

لا تسمح مراجعتنا السريعة بالتعمق في الأمر، ويمكن لمن يريد أن يطلّع على كتابات د. شاكر عبد الحميد حول الجمال في كتبه مثل «التفصيل الجمالي» و«الفن والغرابة»، لكن ما يهمنا هنا التأكيد على أن «عائشة لا تستطيع الطيران» يضم بالفعل بعض المشاهد التي قد تثير حفيظة (بل وتقزز) من اعتادوا تجميل الفن لقبح الحياة، لكنها نفس المشاهد التي تمنح الفيلم فرادته كعمل معاصر يتركز على فهم مغاير كليًا لمعنى الجمال.

وإذا كانت رحلة عائشة تطفو كما أوضحنا في الهامش بين الواقع والخيال، فإن عملة تلك المساحة هي الحواس: اللمس والشم والتذوق، التي يشكل تراكمها واقع الإنسان ويحاصر خياله. المترو المزدحم لا ينفصل عن روائح ركابه، والعمل كممرضة لكبار السن لا فكاك فيها من اختبار سوائلهم وفضلاتهم. حتى الجنس والأكل وجها استخدام الإنسان جسده بغرض اللذة، تجربتهما محكومة باختبار تقبل حواسك للجمال والقبح.

من هذا المدخل أقول بأن فيلم مراد مصطفى فيلم جميل حقًا، في اختياراته المغامرة التي يعلم صاحبها قطعًا أنها ستؤدي في كل مرة إلى مغادرة مشاهد قاعة العرض. لكنها حرية الفن التي صاغت تاريخه، فلو انصاع الرسامون لضرورة رسم البشر كصورتهم الواقعية، لما ولدت الانطباعية والتأثيرية والسوريالية والتكعيبية. لكنك ستظل تجد حتى الآن من يعتبر رسوم ذاك الإيراني الذي يكافح كثيرًا كي يقلد كاميرا الفوتوغرافيا أفضل من لوحات ميرو وبيكاسو!

عائشة لا تستطيع الطيران (2025)
عائشة لا تستطيع الطيران (2025)

البشرية والحيوانية.. أو البشرية الحيوانية

يمكنك أن تتوقف هنا إن كنت ممن لا يفضلون المراجعات التي تكشف عن بعض تطورات القصة، لأنه لا فكاك من أن تتطرق أي محاولة لأخذ الفيلم بجدية إلى الرحلة الحقيقية لعائشة خلال الفيلم: تحولها من امرأة إلى هجين بين إنسانة ونعامة!

تبدو العبارة مثيرة للدهشة وربما الضحك عندما تقرأها هنا، لكنها في الحقيقة ليست رحلة مضحكة إطلاقًا، بل على النقيض هي رحلة نضج تأتي بأكثر الصور سوداوية. المهاجرة السودانية التي تحاول المناورة والنجاة من عنف القاهرة تبدأ في مقابلة نعامة في لحظات وأماكن غير متوقعة، ثم لا تنفك تلاحظ تغيرات جسدية تبدو في البداية مجرد أعراض لأي مرض طبيعي، قبل أن تكتمل الدائرة الدرامية باكتشافنا أنها كانت رحلة تحوّر جسدي فعلي يحدث لجسمها.

لا مجال هنا للتساؤل عن مدى واقعية الحدث، فكل شيء كما أوضحنا يُشكك في مفهوم الواقع برمته، لكن ما يجب التفكير فيه هنا هو إلحاح فكرة هذا التحور الجسدي على عقول الفنانين المعاصرين. يمكن بسهولة استرجاع مقاربات من «بجعة سوداء Black Swan» لدارين أرونوفسكي، «حدود Borders» لعلي عبّاسي، و«نيئ Raw» لجوليا دوكورنو، وفيها جميعًا تجسيد لتلك الفكرة الغرائبية التي تبدو في زمننا الحالي أقرب للتحقق من أي وقت ممكن. فإذا صار من المعتاد أن يكون إنسان صداقة حقيقية مع تطبيق ذكاء اصطناعي على هاتفه، فما الذي يمنع تعرض البشر أنفسهم لطفرات تحوّرية، كفرضية جدلية وفلسفية؟

يأخذ مراد مصطفى هنا ثنائية البشرية/ الحيوانية إلى درجة أبعد من كل المحاولات الحديثة، والتي نذكر منها العنزة في «علي معزة وإبراهيم» لشريف البنداري، «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» لخالد منصور، ومن السينما العربية «ناقة» لمشعل الجاسر. هذه الأفلام وغيرها تستخدم الحيوان بطريقة من اثنتين: إما كبديل عاطفي يعوّض الإنسان عن افتقار علاقة أو مشاعر ما، أو استعارة تشير لسمة مميزة للشخصيات، لكن أحدًا لم يأخذ الخطوة الأبعد فيجعل الإنسان والحيوان وجهان لجوهر واحد كما فعل مراد.

ليس هذا بمعزل عمّا ذكرناه عن محاولة «عائشة لا تستطيع الطيران» مخاطبة الحواس بأكثر الصور اقتحامًا، فإذا كنا نتعرف على الحياة ونخوض غمارها من خلال حواسنا، فالحيوانات هي أفضل من يفعل ذلك، وكأن اضطرار عائشة للتعايش مع هذا القدر اليومي من انتهاك الحواس وقود يُسرع من تحوّرها الجسدي.

عائشة لا تستطيع الطيران (2025)
عائشة لا تستطيع الطيران (2025)

فيلم ليس للجميع

من المفهوم تمامًا أن يبدو كل ما ذكرناه للبعض تأويلًا مُفرطًا للأمور، أو أن يرى قطاع من القراء أن الأفكار وإن استقامت لا تبرر تعمد صانع أفلام أن يصدم مشاعرهم بما يثير الخوف والتقزز، لكن جوهر أي فن حداثي هو إدراك صانعه أن عمله لا يصلح لمخاطبة الجميع، وأن الاستمالات التي اختارها تتناقض مع المألوف والآمن، فلذة المخاطرة ترتبط بالتنازل طوعًا عن الشعبية والشعبوية.

فيلم مراد مصطفى يصرخ بأن صانعه يعرف ذلك جيدًا، وأنه صنع فيلمًا خاصًا ليس موجهًا للجميع، وإنما لمن يمكنه تجاوز حدود الذائقة المعتادة، والاستمتاع بأنه في الزمن الذي صار صناع الأفلام المصريين فيه يمارسون على أنفسهم أكبر قدر ممكن من الرقابة الذاتية، خوفًا من المنع تارة ومن مقصلة الجماهير تارة أخرى، جاء فنان شاب ليُخل بذلك التوازن الآمن السقيم ويُلقي حجرًا في المياه الراكدة، حجرًا دمويًا عنيفًا اسمه «عائشة لا تستطيع الطيران».

اقرأ أيضا: «صراط».. السينما كما الحياة رحلة حسّية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق