هناك حنين خاص لدى السينما السعودية لفترة التسعينيات. ظهر هذا في عديد من الأفلام التي استقبلتها دور العرض في السنوات القليلة الماضية، وكأن همًا لتوثيق الماضي على شريط السينما يكتنف المبدعين السعوديين، ربما لتعويض زمن قل فيه عدد الأشرطة السينمائية المُنتجة، وندر فيها توثيق الحالة التي كانت تمور تحت السطح في المجتمع السعودي خلال تلك الحقبة المليئة بالتفاعلات المكتومة.
أحدث تلك الأفلام، هو فيلم «صيفي» من إنتاج استوديوهات «تلفاز 11» والذي كتبه وأخرجه وائل أبو منصور من بطولة أسامة القس وبراء عالم وعائشة كاي ونور الخضراء وحسام الحارثي.
يتحدث الفيلم عن «صيفي محمد»، رجل طموح يمتلك محل تسجيلات في جدة، ويحاول تكوين ثروة ضخمة عن طريق بناء علاقة طفيلية مع رجل الأعمال الثري «أسعد أمان» من خلال إدارة توزيع التبرعات الخيرية، ونشر الأشرطة الدينية الممنوعة، وإحياء الزواجات الجماعية لمن يتكفل أسعد أمان بتزويجهم.
استطاع وائل أبو منصور أن يقدم واحدة من أجمل اللقطات التأسيسية في السينما السعودية، مقدمصا بداية مبشرة بصريًا في مشهد بديع لبطل الفيلم صيفي وهو أمام البحر بملابسه الداخلية وكأنه خارج من عراك لإنقاذ حياته، رجل تجرد من كل مقتنياته المادية والدنيوية ويحاول أن يغسل ذنوبه وهمومه في هدوء البحر وعزلته. تلوين الصورة البديع أمر نادر جديد على السينما السعودية وهو مؤشر مبشر جدًا.
الجانب البصري المميز الآخر في الفيلم هو الديكور، الكادرات البديعة تندمج بشكل سلس مع العالم المبني بحرفية في الخلفية. يقدم الفيلم صورة غنية بالتفاصيل تعطي المشاهد انطباعًا واضحًا عن شخصية بطل الفيلم والفوضى التي يعيش فيها. يريد صيفي الهروب من هذه الفوضى العارمة والانتقال إلى الطبقة المخملية، يرتدي البشت والعقال في كل زواج يحضره أملًا في تكوين صورة مختلفة عن تلك التي اكتسبها. يريد أن ينظر له الناس بنظرة التاجر المستقبلي الذي يستعد للإنفاق بسخاء على من حوله، بينما الحقيقة أنه متورط في ديون لصالح أعضاء الفرقة التي تشارك في زفاف الزيجات التي يمولها صديقه رجل الأعمال ويشرف هو عليها، ما يشي بكونه شخص فاسد كذلك، ربما يكسب رزقه من الاحتيال.
ربما التي استخدمتها في نهاية الفقرة السابقة تمثل محطة وقوف مهمة في تلقي هذا الفيلم، فهناك غموض يكتنف وظيفة صيفي وحقيقة كسبه للقمة عيشه. قد تكون المشكلة بقدرتي الاستيعابية، ولكن الفيلم انتهى وأنا في حيرة عن ماهية وظيفة صيفي فعلًا، واحتجت إلى مشاهدة بعض المشاهد مرة أخرى والحديث مع من شاهدوا الفيلم حتى أفهم القصة بشكل أفضل. كانت تشغلني أسئلة مثل كيف ارتبط صيفي بالمهدي (حسام الحارثي)، الرجل المتدين الذي يعمل معه على نشر التبرعات والأشرطة الدينية الممنوعة؟ لماذا يحتاج رجل أعمال ثري وصاحب نفوذ إلى أن يشمل صاحب محل تسجيلات في كل أموره وشؤونه حتى ينشر هذه الأشرطة؟ أليس من الأولى إعطاءه مبلغ مقابل توزيع الأشرطة فقط؟
حاول الفيلم فرض أشرطة الكاسيت كأداة سردية، وتاه بين هويتين لم ينجح في تقمص أي منهما. فهو في أحيان كان يحكي قصة درامية عن صاحب محل أشرطة وكيف آلت به الطرق إلى هذا الحال، وفي أحيان أخرى اكتسب الفيلم طابع غموض بوليسي لم يلائمه إطلاقًا.
القاعدة الدارجة في السرد البصري هي أنك يجب أن تُري المشاهدين القصة عوضًا عن أن تُكلف أحد شخصيات الفيلم بسردها لهم. هذه القاعدة تمتد إلى حد معين، لأنه من غير المنطقي ألا تشرح أهم العلاقات وأكثرها محورية. إنه ليس غموضًا حميدًا يحفز المخرج من خلاله المشاهدين على خلق تفسيراتهم الخاصة، بل غموض ناتج عن خلل في الكتابة، ولم يستطع الكاتب والمخرج توضيح تفاصيلها بالشكل الكافي.
من جهة أخرى، احتوى الفيلم على بوادر علاقة مهمة يمكن استكشافها والإبحار فيها، في تلك التي تجمع صيفي بصديقه وزميله زرياب (براء عالم)، المعاناة المشتركة التي تجمعهما واختلاف الأهداف جذريًا يخلق ديناميكية مهمة ومن الممكن استخدامها كمحرك للقصة. صيفي الذي يسعى خلف ثراء ومجد شخصي، مقابل زرياب الذي يحرص على تسديد مبالغ الفرقة الشعبية التي يعمل معها ولا يريد من الثراء سوى قوت يومه. عوضًا عن ذلك، أدخلنا الفيلم في دوامة غريبة قتلت من نسق الفيلم -البطيء بالأساس- حينما قدم شخصيتي عائشة كاي ونور الخضراء، حيث قرر صيفي أن يهجر كل أحلامه وقناعاته بشكل مفاجئ ويركز على هدف آخر لا يبدو أنه يمثله ولا يمثل ما قام الفيلم ببنائه والتجهيز له.
ففي الفصل الثالث من الفيلم، وبدون مقدمات أو مبررات، يهجر صيفي كل ما طارده في هذه الحياة ويعتنق أسلوب حياة أكثر بساطة وقناعة، خطوة في الاتجاه الصحيح لشخص أعماه الطموح والجري خلف الثراء، هي ليست خطوة مستحقة سرديًا لكنها في الاتجاه الصحيح لمصلحة الشخصية. لكن يقرر الفيلم الرمي بكل هذا النضج والتصالح مع النفس والحال في أواخره حينما يقرر صيفي العودة إلى الانتقام من أسعد أمان والمهدي، في منعطف سردي يجعلني أقف حائرًا أمام أزمة الهوية التي يعيشها صيفي أو من قام بكتابة قصته. ولم أر في هذا سوى كم هائل من المنعطفات العشوائية التي أخذتها القصة، كنت متأملًا بفكرة أكثر وعيًا من كون صيفي سوف ينتهي به المطاف في مكان انطلاقته، الشخص الطموح الذي يجري خلف الثراء بأي ثمن، هو نفس الشخص المستعد لتدمير كل من حوله في سبيل إرضاء غريزة انتقامه، كل المحاولات في تهذيب النفس واكتساب القناعة والسلام التي بذل الفيلم وقتًا طويلًا في إيصال صيفي إليها، تم نثرها في أدراج الرياح.