لن يفهم القراء الشباب هذا الموقف، وسيجدونه في الأغلب مثيرًا للسخرية، لكن سيدركه جيدًا من هم في الثلاثينيات وأكثر، من جربوا في طفولتهم الذهاب إلى ستوديو التصوير الفوتوغرافي ليلتقطوا صورة تذكارية. لا أقصد هنا الصور الشخصية المعتادة التي لا يزال البشر في حاجة إليها حتى اليوم ولو اختلفت آلياتها، ولكن صور العائلات والأصدقاء الذين كانوا يختارون من الخلفيات التي يملكها استوديو التصوير خلفية ملائمة للتصوير أمامها: أمام برج إيفل، أو ساعة بِج بِن، أو صورة حديقة غنّاء، أو شاطئ بحر استوائي، أو أي مكان آخر بعيد.
كان المصورون يتنافسون لاقتناء أكبر مجموعة من هذه الخلفيات لجذب الزبائن، وبالرغم من النتائج البدائية التي كانت الطريقة تُسفر عنها، كان مصير هذه الصورة أن تُعلق في صدر المنزل لتلك العائلة تتظاهر بزيارة لندن، أو هؤلاء الأصدقاء ينتحلون ذكرى ممتعة في المحيط. كانت محدودية الاختيارات المتاحة تجعل فعلًا كهذا تفريغًا لرغبة ما لدى هؤلاء البشر بالتحرر من قيود واقعهم، وزيارة أماكن لا يملكون واقعيًا قدرةً على بلوغها.
تذكرت هذه الذكريات عند مشاهدة «خرطوم»، الفيلم الوثائقي السوداني المعروض في مسابقة الأفلام الوثائقية لمهرجان صندانس السينمائي، والذي اضطر صنّاعه إلى حيلة عكسية تمامًا، فقد قاموا باستخدام الخلفيات الخضراء (الكروما)، والتي تستخدم عادةً في الأفلام لأسباب مشابهة لما كانت العائلات تفعله قديمًا في أستوديوهات التصوير بأخذ الممثلين إلى مكان بعيد حالم، لكنهم استخدموها في الفيلم كي تنقل شخصياتهم إلى نقطة البداية، إلى مدينة الخرطوم التي يحمل الفيلم اسمها كما يحمله عقل وذاكرة كل من اضطر لتركها.

ثمن الوقت وقيمته
«خرطوم» وثائقي إبداعي تشاركي، من إنتاج سودان فيلم فاكتوري (طلال عفيفي)، وإخراج خمسة من المخرجين. قام أربعة منهم وهم أنس سعيد، وراوية الحاج، وإبراهيم سنوبي، وتيمية أحمد بتصوير أربعة خطوط درامية، يتابع كل مخرج فيها شخصية (أو شخصيتين في حالة واحدة)، ثم قام المخرج الخامس فِل كوكس بصياغة المادة المصورة في فيلم واحد متكامل، بمعني إننا لا نشاهد أنطولوجيا لأربعة حكايات من السودان، وإنما وثائقي متماسك يتنقل بتوازن بين شخصيات الحكايات.
تُخبرنا المادة المصورة أن المخرجين بدأوا تصوير شخصياتهم وقت اندلاع الثورة الشعبية ضد نظام البشير: موظف حكومي يعيش حياة رتيبة أجمل ما فيها هوايته وأصدقائه في تربية الحمام، بائعة شاي نوبية تحاول كسب الرزق لتنفق على ابنتها، طفلا شوارع يعملان في جمع الزجاجات البلاستيكية من القمامة، وشاب يتحمس للثورة فيصير مسعفًا دوره إنقاذ المصابين خلال المواجهات مع قوات الأمن.
لو تم إنجاز ذلك الفيلم سريعًا كما حدث مع عشرات الأفلام سواء عن الثورة السودانية أو باقي ثورات الربيع العربي، كنا سنجد نفسنا أمام وثائقي إخباري حالم آخر، يجمع الأطياف تحت راية الوطن، ويحلم بمستقبل مثالي تزينه العدالة الاجتماعية والديمقراطية والرخاء. مستقبل صرنا جميعًا نعرف أنه كان مجرد وهم تخيله الملايين ليصحوا على واقع مؤلم، كارثي في حالة السودان الذي تحول ساحة حرب أهلية مخيفة لا يعلم أحد متى ستنتهي. حرب دفعت ملايين السودانيين – ومن بينهم شخصيات الفيلم الخمسة – إلى النزوح إلى الدول المجاورة للنجاة بحياتهم وأهلهم.
لم يكن مرور الوقت سعيدًا على السودانيين ولا على الشخصيات، لكنه على الأقل سمح لمخرجي «خرطوم» أن يتعاملوا مع مادتهم المصورة بهدوء ونضج يتجاوز النشوة الثورية، ويعيد التفكير فيما حدث والتأمل في الحالة التي وصل إليها كل شخص من الخمسة، الذين وإن اختلفوا كليًا في نقطة البداية، إلا أن القدر حكم عليهم جميعًا أن ينتهوا على نفس الشاكلة: اللجوء لبلاد أخرى، والحياة على ذكرى الخرطوم وأمل الرجوع إليها.

اللعب تجسيدًا للهوية
لعل هذا هو القاسم المشترك بين كل الشخصيات، وربما لو وسعت أفقك وفكرت فيمن تعرفهم ستجده ينطبق على أغلب السودانيين: إنهم يحبون مدينتهم بحق. يحبون تفاصيلها ويستمتعون بالحياة فيها، حتى لو بدت مدينة قديمة أو متأخرة مقارنة بعواصم أخرى. وعندما يصف الطفلان جامعا الزجاجات أنفسهما بأنهما ملوك لعالم القمامة في الخرطوم، يبدو كأنهما يتحدثان بلسان الجميع، شعورهما هو شعور المُسعف يوم رافق حبيبته مستمعًا إلى الموسيقى، أو الموظف عندما يذهب لنادي محبي الحمام فيقابل أصدقاءه، أو بائعة الشاي عندما تجلس مع زبائنها وابنتها.
قد تبدو ذكريات الشخصيات عن مدينهم مظللة بالنوستالجيا، فحنينهم إلى المدينة التي تركوها قد يجعلهم يتغافلون عن عيوبها، فإذا لم تكن هناك عيوب لماذا كان الشعب ليخرج ثائرًا؟ لكن ما يُشعرك به الفيلم هنا، ومجددًا يُشعرك به التعامل مع أي سوداني، هو أنه شعب يحب السلام ويستحقه، شعب يريد أن يحيا في سعادة وهدوء، لم يكن أفراده أبدًا يتخيلون أن يصيروا متناثرين بين الدول حالمين بالعودة. وبالرغم من هذه الرغبة العارمة، إلا إنهم في الوقت نفس قادرين، بذات السلام النفسي والهدوء، على الاندماج في مدنهم الجديدة، مستحضرين قطعًا من الذاكرة، في صورة مطعم أو مقهى سوداني، أو جلسة مع مجموعة من الأصدقاء.
قوة فيلم «خرطوم» تكمن في قدرته على الإمساك بتلك الطبيعة الإنسانية الفريدة للإنسان السوداني، بحس اللعب الطفولي الذي يملكه الجميع بغض النظر عن سنهم وأوضاعهم، لتأتي مشاهد الكروما وإعادة خلق مشاهد الماضي في المهجر وكأنها لعبة ممتعة اندمج فيها الجميع: الشخصيات والمخرجين، مستمتعين باللحظة بغض النظر عن نتائجها. ولا مشهد يجسد تلك المتعة الواضحة في الصنعة من لقطة الموظف الحكومي وهو جالس فوق حمامة عملاقة يدخن أرجيلته ويشاهد العالم.
على المستوى التقني هذا مشهد مُنفذ برداءة مقصودة، تكاد تحاكي المؤثرات الخاصة في مسلسلات الثمانينيات (أو ربما فوتوغرافيا الاستوديوهات التي ذكرناها)، لكن على مستوى التأثير، تجد المشهد نفسه مشحونًا بالمشاعر المتناقضة، الإيجابية في مجملها. هذه هي الطرافة التي تمس القلب. طرافة من يعيش مأزقًا إنسانيًا مُفزعًا، لكنه لا يزال قادرًا على الحب واللعب، وعلى تدخين الشيشة وتأمل العالم، فيا لها من قدرة خارقة!

على أمل
«خرطوم» فيلم ديناميكي، يخاطب القلب. يبدو وكأنه عمل تطور مع صناعه وشخصياته، بدأ كوثائقي إخباري عادي لكن الظروف العسيرة ساعدته في أن يصير شيئًا أكبر. أن يغدو عملًا شعريًا عن الإنسان السوداني. قصيدة محبة لا قصيدة رثاء. محبة مليئة باللعب رغم جوهرها الحزين.
وكما كانت الأسر تذهب قديمًا كي تلتقط تلك الصور الزائفة حلمًا بالذهاب بعيدًا، ثم كبر الأطفال وصار منهم من سافر بالفعل إلى آخر العالم. فبالتأكيد سيأتي يوم يعود فيه شخصيات الفيلم وصناعه، والملايين غيرهم، لمدينتهم الحبيبة التي خلقوها في خلفية صورهم، كما هي حيّة وباقية في ذاكرتهم.
اقرأ أيضا: صندانس 2025: «وين ياخدنا الريح».. صوت جديد في السينما التونسية