فاصلة

مقالات

صناعة «الهَبّة».. الطريق إلى النجاح في شباك التذاكر السعودي

Reading Time: 7 minutes

في السوق السعودي اليوم، لم تعد المسألة مجرد خيارات متاحة، بل سباق على جذب الانتباه في مساحة مزدحمة بالمؤثرات والمغريات. وفي قلب هذا السباق، يقف شباك التذاكر السينمائي محاولًا أن يُسمِع صوته وسط ضجيج الترفيه.

لكن ما الذي يجعل فيلمًا ما يتجاوز حدود الشاشة ليصبح حديث المجالس؟ كيف يتحول من عرض عابر إلى ظاهرة شعبية؟ هذا التقرير يحاول فهم آليات صناعة الأفلام السينمائية الناجحة في السوق السعودي، ويحلل كيف أصبحت مفتاح النجاح في شباك التذاكر. 

قبل أن نتعمق في الحديث عن شباك التذاكر السعودي ونحلل الأفلام الناجحة، يجب أن نلقي نظرة على ثقافة وطباع المستهلك المحلي ونسأل:

س. لماذا يذهب إلى كافيه أو مطعم معيّن ويصطفّ لساعات؟
س. لماذا يحضر حدثًا أو فعالية معينة حتى تنفد التذاكر (Sold Out)؟
س. لماذا يرتدي علامة تجارية ما من الأزياء أو العطور؟
س. هل لأنه ألذّ كوب قهوة؟ أم أطعم طبق؟ أو حتى أزكى رائحة على كوكبنا الجميل؟

بكل تأكيد: لا.

الجواب: لأنها أصبحت «هَبّة».
والهبّة، كلمة عامية تُطلق على الشيء أو المُنتَج أو الظاهرة التي أصبحت دارجة ومنتشرة بشكل واسع بين الناس في وقت معين أو محدد. وهذا ينطبق تمامًا على شباك التذاكر، لكونه مُنتَجًا متاحًا لفترة محدودة في دور السينما.

التحدي داخل شباك التذاكر

شباك التذاكر السعودي يحتوي ما بين 20 إلى 45 فيلمًا في الفترة الواحدة، تتنوع بين الأمريكي، والمصري، والسعودي، وحتى من دول أخرى مثل الهند وكوريا وغيرها. ويُضاف أسبوعيًا ما بين 3 إلى 10 أفلام جديدة.

ولكي تتضح الصورة أكثر: بلغ إجمالي عدد الأفلام المعروضة في دور العرض السعودية خلال عام 2024، 504 أفلام.  فعن أيّ تحدٍّ للبقاء والوصول إلى الجمهور نتحدث؟

شباك التذاكر ينافس من؟

التحدي لا يقتصر فقط على المنافسة بين الأفلام المحلية والأجنبية داخل شباك التذاكر، بل المنافسة الحقيقية أوسع من ذلك بكثير. فمن جهة أولى، هناك صراع بين شباك التذاكر والوقت الضيق المتاح لدى المستهلك، وهو ما يعادل يومًا ونصف أسبوعيًا، أي عطلة نهاية الأسبوع (حيث لا تبدأ الفعاليات يوم الجمعة إلا بعد صلاة الجمعة أو حتى بعد صلاة العصر).

ومن جهة أخرى، يجب أن ندرك أن المشاهد — ذلك العميل الذي سيشتري التذكرة — هو طالب مشغول بدراسته، أو موظف منهك من عمله، أو حتى رب أسرة لديه مسؤوليات طوال أيام الأسبوع. لذا، فإن فرصة المشاهدة الوحيدة تكون في عطلة نهاية الأسبوع أو خلال الإجازات الرسمية.

وهنا يظهر التحدي الأكبر: الفعاليات الترفيهية التي تقدم تجارب فريدة، إلى جانب المطاعم والمقاهي التي تقدم كل ما لذ وطاب من المأكل والمشرب. هذه الفعاليات والعروض باتت تجذب الجماهير بطوابير غير مسبوقة، فيما أصبح يُطلق على هذه الظاهرة اسم «اللاينات (Lines)».

صناعة «الهَبّة».. الطريق إلى النجاح في شباك التذاكر السعودي

الآن، قُل لي أيها المُنتِج، ويا صانع الفيلم القادم إلى شباك التذاكر:

كيف ستجذب انتباه هذا المشاهد الذي يواجه كل هذه الضوضاء والمغريات من الترفيه والفعاليات خلال عطلة نهاية الأسبوع؟ ليس فقط لكي يشتري تذكرة لفيلمك، بل حتى ليعرف أصلًا أن فيلمك موجود على الساحة، وأنه أحد الخيارات الترفيهية المتاحة أمامه؟

الحل يا صديقي المُنتِج، ويا صانع الفيلم، في ثلاث حروف: «هَبّة».
أي أن تجعل من فيلمك حديث الناس، وأن يتداولوه بينهم – المعروف بـ Word of Mouth  – أو أن يتحدثوا عنه في مواقع التواصل الاجتماعي.
تنويه:  لستَ أنت من يجب أن يتحدث عن الفيلم، بل الجمهور من تلقاء نفسه.

تذكّر: المشاهد لا يرى التحدي كما تراه أنت كصانع فيلم — بين السعودي والمصري والأمريكي — بل يقيّم وقته المحدود وكيف يمكن أن يقضيه بين أنواع مختلفة من الترفيه: مطاعم، كافيهات، مهرجانات موسيقية، فعاليات عالمية ومحلية، تجمعات الأصدقاء والعائلات… وأيضًا: السينما.

 عزيزي المُنتِج، يا صانع الفيلم:

الهَبّة أداة سحرية.
لا تهتم بنوع فيلمك، ولا بجنسيته، ولا بطولة من، ولا بعدد السنوات التي قضيتها في كتابة فكرتك الفريدة، ولا حتى بالعثرات التي واجهتك في الطريق.
كل ما يهم: هل هو حديث الشارع؟

نماذج من أفلام نجحت في صناعة «الهَبّة» في شباك التذاكر السعودي:

أوبنهايمر
Oppenheimer (2023)
  1. Oppenheimer (سيرة ذاتية)
  • مبيعات: 702 ألف تذكرة
  • الإيرادات: أكثر من 44 مليون ريال
    رغم بطء الإيقاع، والسردية الثقيلة، والطول الذي بلغ 3 ساعات، إلا أن الفيلم فرض نفسه كتحفة سينمائية يُقال عنها «بيفوتك نص عمرك لو ما شفته» وأصبح «فيلم السنة» بلا منازع.
ليث المجالي
فيلم مندوب الليل (2023)
  1. مندوب الليل (دراما)
  • مبيعات: 620 ألف تذكرة
  • الإيرادات: أكثر من 28 مليون ريال
    انتقل الفيلم من أوساط صناع الأفلام والمهرجانات إلى حديث العامة، بسؤال واحد: «هل فعلًا تحدث هذه الأحداث في مجتمعنا المحافظ؟» وأرى هذا السؤال كفيل بأن يكون حديث الشارع وينتشر بين المجتمع. حتى أن البعض وصفه بأنه أفضل فيلم سعودي شاهدوه في السينما.
فيلم ( هوبال - 2024)
فيلم ( هوبال – 2024)
  1. هوبال (دراما)
  • مبيعات: 587 ألف تذكرة
  • الإيرادات: أكثر من 24 مليون ريال
    فتح هذا الفيلم، في اعتقادي، نوعًا جديدًا من الأفلام السعودية (سنتحدث عنه في مقالة لاحقة).
    نجح في جذب مشاهدين جدد إلى السينما، لا سيما في مدن مثل عنيزة، وبريدة، والأحساء، حيث وصلت العروض إلى Sold Out  خلال ساعات، بل حتى عند إضافة عروض جديدة في نفس اليوم، كانت التذاكر تنفد سريعًا.
    في إحدى فترات عرضه، شكّل فيلم هوبال ما يصل إلى 30٪  من مبيعات شباك التذاكر اليومية في السعودية. عن أي «هَبّة» وحديث شارع نتحدث؟!

ولا أنسى مكالمتي مع صديقي المنتج حسين بن سهلان من منطقة نجران، وهو يخبرني أن أقاربه قطعوا 300 كلم إلى مدينة أبها لمشاهدة فيلم «هُوبال»، الذي أطلقوا عليه هم اسمًا خاصًا «فيلم القبيلة».
أي «هَبّة» تلك التي تدفع الناس لتغيير اسم الفيلم بما يربطهم به، ولقطع مئات الكيلومترات من أجله؟

مشهد من فيلم إنه ينتهي معنا
It Ends with Us
  1. It Ends with Us (رومانسي)
  • مبيعات: 281 ألف تذكرة
  • الإيرادات: أكثر من 14 مليون ريال
    كان حديث الفتيات على منصّتي X وتيك توك، والسبب؟ ارتباطه المسبق برواية شهيرة كانت على أعتاب إنتاج سينمائي. ومع بدء عرضه، انهالت مقاطع التيك توك، والتعليقات الإيجابية من جمهور الفتيات، ليصبح الفيلم ظاهرة شبابية حقيقية.
Bergen (2022)
Bergen (2022)
  1. Bergen (تركي/موسيقي/سيرة ذاتية)
  • مبيعات: 230 ألف تذكرة
  • الإيرادات: أكثر من 14 مليون ريال
    رغم بدايته الضعيفة و خروجه من دور العرض، عاد الفيلم بقوة بعد أن طالبت الجماهير بإعادته بسبب تأثرهم بقصته الإنسانية، التي تحكي عن التعنيف الأسري ضد المرأة.
    ما عزز ارتباط الجمهور به هو أنه يستند إلى قصة حقيقية للمغنية برغن.

تأثير «نجوم الشباك» في صناعة الهَبّة

مصطلح «نجم شباك» يُستخدم في جمهورية مصر الشقيقة، ويُطلق على الفنانين الذين يساهم وجودهم في أي فيلم في جلب عدد كبير من المشاهدين إلى دور السينما. شخصيًا، لا أظن أن لدينا «نجوم شباك» محليين حتى الآن، لكن مع الوقت ستُبنى أسماء عديدة وبكل تأكيد، خصوصًا مع وجود سجل حافل بإنجازاتهم المتكررة في شباك التذاكر (وليس في المنصات)، التي ستشهد لهم بالنجاح.

لنضرب بعض الأمثلة: إذا نظرنا إلى اسم الفنان المعروف والغني عن التعريف بيومي فؤاد، نلاحظ أنه في فيلم «وقفة رجالة» تجاوزت مبيعات التذاكر 859 ألف، وفي فيلمه «جوازة توكسك» تجاوزت 635 ألف تذكرة في السوق السعودي. ومع ذلك، حين ظهر في الفيلم السعودي «السنيور عقدة الخواجة» من إخراج المخرج السعودي أيمن خوجة، لم يُسهم ظهوره في بيع مئات الآلاف من التذاكر، بل لم تتجاوز مبيعات الفيلم 55 ألف تذكرة في سوقنا المحلي —حسب تقرير هيئة الأفلام السعودية  السنوي 2024—.

مثال آخر هو استخدام مشاهير مواقع التواصل في صناعة الهَبّة وجذب المشاهدين. لدينا فيلم «3 2 1 أكشن» كأبرز مثال؛ فيلم لم تصل مبيعاته الى 1,300 تذكرة، رغم أن إجمالي متابعي الممثلين فيه يتجاوز الملايين. لكننا لم نرَ أثرهم في شباك التذاكر. لذلك، فإن الاعتماد الكامل على الفنانين أو مشاهير مواقع التواصل ليس سببًا كافيًا ليصبح الفيلم «هَبّة» أو حتى لضمان النجاح في شباك التذاكر.

فيلم («هوبال»، 2024)
فيلم («هوبال»، 2024)

الفيلم هو من يبني نجاحه وليس دور العرض

لكل من يظن أن دور العرض هي من تتيح فرصة النجاح للفيلم، فلنتذكّر فترة عرض فيلم «هوبال» في السينما، تزامنًا مع عرض فيلمين سعوديين آخرين: «صيفي» من شركة تلفاز 11، وفيلم «ليل نهار»، الإنتاج المشترك بين شركة موڤي ستوديوز وشركة سرب. رغم امتلاك الشركتين لقوة جماهيرية وتوزيعية، لم تستطيعا نيل الحصة السوقية المتوقعة، وفشلتا في تحقيق أرقام تذكر المأمولة في شباك التذاكر. لكن فيلم «هوبال» هو من انتصر، وكان «هَبّة» الموسم، حتى إن بعض الفترات شهدت بلوغ مبيعاته ما بين 25% و30% من إجمالي المبيعات اليومية لشباك التذاكر السعودي. وقد فرض الفيلم نفسه على جميع مشغّلي دور العرض، الذين لاحظوا الطلب المتزايد عليه، وحتى عند فتح صالات جديدة، كانت التذاكر تُباع بالكامل خلال ساعات («Sold Out»). 

نعيد ونكرر: دور العرض ليست هي من تُنجح الفيلم بإبقائه في الصالات، بل الفيلم هو من يفرض نفسه في البقاء.

 نجاح الفيلم السعودي هو نجاح للقطاع بأكمله

الفيلم السعودي الذي يصبح «هَبّة» لا ينجح بمفرده فقط، بل ينعكس نجاحه على القطاع بأكمله، ويُسهم في:

  • تشجيع المستثمرين على إعادة الاستثمار في القطاع، مما يضمن استمرارية السيولة المالية ويخلق فرص عمل جديدة ومستمرة للكوادر المحلية.
  • جذب مستثمرين جدد وزيادة التدفقات النقدية داخل السوق.
  • بناء الثقة والقبول لدى المشاهد المحلي تجاه الفيلم السعودي، وتعزيز التطلع لمشاريع محلية مستقبلية.
  • تحفيز دور العرض على المساهمة في تسويق الفيلم السعودي عبر حساباتهم، فروعهم، وشاشاتهم، وطرحه في أوقات الذروة.

لذلك، فإن نجاح «هَبّتك» أيها المُنتِج وصانع الفيلم له مردود يتجاوز فيلمك الفردي، بل يعم القطاع بأكمله. وكما يُقال في المثل الإنجليزي: «A rising tide lifts all boats.»

في الختام

  • من يفهم كيف تُصنع الهَبّة، وكيف تُربط القصة بالثقافة المحلية أو الحدث المحلي، هو من يملك شباك التذاكر.
  • الأرزاق بيد الله. قد تقوم بكل خطوة مذكورة في أعظم كتب التسويق والدعاية، ولا تحصل على نتائج تُذكر. المطلوب منك، أيها المُنتِج وصانع الفيلم، هو الأخذ بالأسباب وترك النتائج على الله عز وجل، فالفلاح كله بيديه سبحانه.

تمنياتنا بأن تكون أفلامكم القادمة هَبّات شباك التذاكر السعودية، وسببًا جوهريًا في توسّع ونمو السوق المحلي.

اقرأ أيضا: السينما السعودية: قراءة في تقرير هيئة الأفلام 2024 والتحولات الثقافية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق