تعتمد هوية الأفلام الوثائقية على ما يتضمنه اسمها، «التوثيق» سواء كان توثيقًا لأحداثٍ كانت وإعادة استكشافها وقراءتها، أو توثيق لحالة وأوضاع جارية، تختزنها السينما الوثائقية وتحفظها كي تُخضعها للتحليل في الحاضر والمساءلة في المستقبل. ويعد الأرشيف وسيلة من أهم الوسائل التي تعتمد عليها السينما الوثائقية في قراءتها لأحداث الماضي واستعادتها إياه، ولو كان ماضيًا قريبًا. ولكن؛ ماذا لو غاب الأرشيف أو تم محوه عمدًا، كيف يمكن للسينما الوثائقية أن توثق وثيقة غائبة أو ممحوّة؟
هنا يظهر دور الخيال، وقدرة صانع السينما الوثائقية على إعادة بناء الأحداث أو صناعتها كما في فيلمي «تحت سماء دمشق» للمخرجة السورية هبة خالد، و«بنات ألفة» للتونسية كوثر بن هنية.

أصبحت صناعة الفيلم حدثا فوق الحدث في فيلم «تحت سماء دمشق»، القائم على توثيق مسرحية تقدمها عدة فتيات. المسرحية هنا هي الحدث، وفي انتقالها إلى مساحة السينما نلحظ هنا عدة طبقات من التخييل.
هناك لعبة الفيلم داخل الفيلم، فنحن نرى مخرجين رجلين يعملان على توثيق المسرحية سينمائيًا وهما طلال ديركي، وعلي وجيه، والمفارقة هنا أن فيلم عن مسرحية نسوية يعتمد على إدارة ذكورية. هذا هو ما نراه في بداية الفيلم. ولأن رُبّ ضارة نافعة، جاء التوثيق العرضي – أو المقصود سيّان- ليكون مادة للمخرجة هبة خالد لتقوم بتوثيق عملية التوثيق تحت عنوان مكرّر هو «تحت سماء دمشق»، وهو الاسم نفسه الذي حمله فيلم روائي سوري أنتج في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي للمخرج إسماعيل أنزور، والد المخرج المعروف نجدت أنزور.
يتحدث الفيلم القديم عن علاقة الرجل بالمرأة، وهذا ما عاود الفيلم الوثائقي اللاحق الحديث عنه، وتوثيقه بالاسم نفسه، وتحت سماء دمشق أيضًا، فمع مضي قرن منذ خروج الفيلم الأول؛ لا زالت الغلاقة بين الجنسين غائمة. والسماء لم تبدل غيومها، كما أن الأرض لم تبدل نساءها.
«الدنيا مسرح كبير»، عبارة درجت حتى زاد مُردِّدوها، وينسبها ناقلوها لوليم شكسبير، وبالفعل ما الحياة إلا مسرح كما كان يردد يوسف وهبي أيضًا، فيما أورد نجيب محفوظ في روايته «خان الخليلي» توصيفا أكثر صدقًا حين قال: «الحياة مأساة والدنيا مسرح ممل». وبمقدار المأساة والملل يرتقي الفيلم الوثائقي، فدمشق التي تعشق ياسمينها وتأسرك أسواقها ويفتنك تاريخها وحضارتها؛ يأتي الفيلم ليظهر تحت سمائها ما يستحق الأسى والمواساة، فالمرأة محل شك ومعاناة وتوجس، وكأن هذا قدرها. فواحدة من فتيات الفيلم تناقش مع أسرتها المسرح بوصفه عشق حياتها، وأخرى تمتنع عن مواصلة التمثيل لأمر خفي، ويظهر ضغط شريكها لاحقا، وثالثة تُبتز من قبل طرف في هذه المسرحية، وكان الأولى به أن يكون مصدر ثقة لا شك، وللأسف دوما «من مأمنه يؤتى الحذر». هكذا تنفرط سبحة المآسي النسائية؛ لتقود الفيلم هبة خالد مضطرة، وينتهي بها المطاف لنتائج جيدة، فالفيلم حضر في مهرجانات العالم العربي، واتسعت هذه السماء بمشاهدته، فالممثلات في هذه المسرحية أكثر عددًا ممن ظهرن على تلك الشاشة، ودمشق ما هي إلا كل أرض بها مثل هؤلاء الفتيات.

انطلاقا من الصورة التي قدمتها الفتيات في مسرح الحياة تحت سماء دمشق؛ يمكن لأي أحد أن يفتش عن ممثلة على خشبة هذه الدنيا، فهن منّا ومن بيننا، وكل فتاة لها قصتها، وهذا ما يجعل خبر مثل: «سجن فتاتين تونسيتين هاربتين بتهمة الإرهاب» موضوعا محفزًا للمخرجة التونسية كوثر بن هنية. ولكن ما قيمة الحديث مع السجينتين؟ وماذا تضيف سجينتان لقصة لم يهتم بها أحد لحد أبعد من ذلك الخبر القصير؟ ماذا لو أخرجناهما لتحكيا قصة ما قبل السجن؟ وهل يمكن لفتاتين ربما لما يتغير تفكيرهما تجاه الفن بعد تطرفهما؛ أن تتعاونا في الفيلم؟ وما نسبة ما ستسرانه بأمانة دون تزييف أو تورية أو تعمية؟

كل هذه الأسئلة وغيرها قفزت عليها كوثر بن هنية؛ لتعيد تشخيص الحكاية بوجود الأم وابنتيها المتبقيتين، واستبدال السجينتين بممثلتين بديلتين هما: نور قروي وإشراق مطر في دوري غفران ورحمة الشيخاوي، والاستعانة بالفنانة هند صبري للقيام بدور الأم ألفة أحيانًا، ولكن أيضًا ما قيمة تمثيل دور الأم؟ فالأم شاخصة أمامنا، ومهما بلغت هند صبري من احترافية؛ لن تتمكن أبدًا من الوصول إلى ما عاشته ألفة، فالحياة مأساة كما قال نجيب محفوظ، ومن أعظم المآسي ما عاشته ألفة، ولا أحد يمكنه تمثيل مأساتها مهما حاول.
تُعَدُّ هند صبري في هذا الدور الحلقة الأضعف، لا لقلة إمكانياتها. فهي ممثلة متمكنة دون شك، ولكن وهج ألفة أطفأ قدرة هند، وكان على هند صبري ألًّا تُشرق أمام الشمس، فالواقع أقسى مما يستطيعه التمثيل. وهذا ما دعا مجد مستورة – من قام بالأدوار الذكورية- إلى طلب إيقاف التسجيل؛ لقسوة ما سمع.
إن لعب هذه الأدوار يسيرة على ممثلين مقتدرين مثل هند صبري ومجد مستورة، إذا ما آمنّا أنه تمثيل صِرف، أما وقد امتزج بالتوثيقي، فهذا ما يحيله إلى محطة جديدة من التعاقد مع المشاهد، ويلتزم بأخلاقيات أقلها تحري الدقة، والأمانة في النقل والتوثيق، والخلاص بإحضار الشخصيات عينها لإلقاء التبعات عليها، وهذا ما يجعل الحمل ثقيلا على الممثلين، يسيرا على البنتين وأمهم. وعلى مجد مستورة، ونور قروي، وإشراق مطر دون هند صبري تحديدًا، لأننا لا نرى من يقومون بأداء أدوارهم، بينما هند وألفة في الساحة معًا.

يبدأ التعاقد ما بين المشاهد والفيلم منذ التصنيف، والفيلمان اللذان استشهدت بهما حائران في التصنيف ما بين الدراما والمسرح والوثائقي، وإن كانت الحيرة في «بنات ألفة» أكثر، لإعلان التمثيل الدرامي جزءًا في الفيلم بحضور ممثلين هم هند صبري، ومجد مستورة، ونور قروي، وإشراق مطر. وهذا ما يحيلنا إلى حجم الحقيقة في الأفلام الوثائقية، فما دام التصوير يُدار، فالتمثيل حادث لا محالة، والتفاوت يكمن في القدرة على الأداء.
عنونت الباحثة السويدية أنيت هيل Annette Hill مبحثا لها بـ «الوثائقي هو وهم»، وتحيل الأمر على الجمهور الذي يستمتع بالطريقة التي يتقدم بها الفيلم الوثائقي ما بين الحقيقة والخيال، فالأمر في الوثائقي خاضع على إعادة بناء لا محالة، ولذلك فالفيلم من صُنع المخرج في نهاية المطاف، وبسيناريو يرتضيه، أو اتفق وتوافق عليه مع كل العاملين في الفيلم من (ممثلين) تجاوزًا، وموثقين (فريق العمل) أيضا تجاوزًا، فكل ما تم تصويره لن يخرج للمشاهد، وإنما اختير من الأرشيف ما يُراد للمشاهد أن يراه؛ حتى فيما سربتاه كوثر بن هنية، وهبة خالد في فيلميهما من مشاهد تم تقديمها والكاميرا دائرة دون أن تقف، فتلك المشاهد هي الأصدق تجاوزا، هذا على افتراض أن الأمر لم يكن متفقا عليه من قبل، أو هكذا أريد له.
إن السينما فن الوهم، وأجمل الوهم ما أراد المشاهد أن يصدقه طواعية، وهذا هو سحر السينما، عندما تدخل إلى الصالة طواعية، مستسلمًا لما ستراه، ومترقبًا الدهشة التي ربما تأتي أو لا تأتي، وأعظم الدهشة هي ما تحدث عندما تشاهد قصة تعرفها، ومع أنك تعرفها غير أنها جاءت بإبداع يتجاوز القصة. مقدمة لك الدهشة في قالب ما بين الوهم والحقيقة، وما بين المسرح والدراما، وما بين الناس العاديين والممثلين، حتى تلتبس عليك الأمور، فلا تعلم إلى أي الضفتين تنحاز في كل حالة، عندها تؤمن بأن الحياة وهم كبير يستحق التوثيق.
اقرأ أيضا: بنات ألفة.. أن تدع القصة تقودك نحو الحكي