فاصلة

مراجعات

«صراط»… رقصٌ كابوسي على حافة الفناء

Reading Time: 4 minutes

يحكي الفيلم الرابع للمخرج الأسباني الفرنسي أوليفر لاكسي، قصة لويس (سيرجي لوبيز)، الأب الذي ينطلق في رحلة مع ابنه بحثًا عن ابنته المختفية منذ شهور أعقبت حضورها حفلة موسيقية معزولة Rave في المغرب. وبينما يلتقي الأب والابن مجموعة من غريبي الأطوار ممن ينظمون تلك الحفلات الصاخبة في فضاء صحراوي مفتوح، تتحول رحلتهما عبر ربوع الأطلس الكبير تدريجيًا إلى سعي تجريدي وتجربة انصهارية مع الوجود، عبر اندماج في رقص محموم حد الانصهار، بالمعنى الحرفي للكلمة.

يفتتح فيلم «صراط Sirât» بلقطات سريعة ومقربة لأياد منهمكة في تركيب وتوصيل مكبرات صوت عملاقة وقوية، إعدادًا لحفل Rave Party في مكان ما من صحراء ورزازات المترامية، الواقعة عند السفح الجنوبي لجبال الأطلس الكبير. تتعرض الحفلة للمنع وتُفضّها قوات الجيش، فينفلت إيقاع الفيلم إلى مشاهد تعقّب محمومة تعبر على إثرها قافلة شاحنات غريبة تحمل شخصيات مشروخة هشة، تتسابق الشاحنات في طرقاتٍ غير معبدة بسرعة مجنونة، حتى حين لا يكون في إثرها أحد، وكأنها تفرّ من نفسها.

"صراط"... رقصٌ كابوسي على حافة الفناء
Sirât (2025)

نحن ربما في مساحة مشتركة بين فيلم «Freaks»  لتود برونينغ و«ماد ماكس Mad Max» لجورج ميلر (تتحدث إحدى الشخصيات بشكل مبهم عن حرب عالمية وبداية عصر انهيار كبير)، وتصور روحاني ينسج رابطًا غير مباشر مع ثيمة التدين عبر مفهوم «الصراط»، تدعمه لقطة آسرة لطقس الطواف يبثها تلفاز صغير داخل حجرة ضيقة بائسة في محطة بنزين شبه مهجورة، وكأنها لتقول أنّنا في بيئة لم يعد فيها أحد يسمع مناجاة المتضرعين. نحن إزاء تصور تطبعه نظرية صمت العالم الفلسفية وأزمة الروحانيات في زمننا المعاصر.

تشغّل جايد، المرأة التي يلتقي لويس في رحلة بحثه عن ابنته الموسيقى الصاخبة داخل الشاحنة، فيعترض الأب قائلا «اخفضي الصوت، نكاد لا نسمع شيئاً»، فتجيب جايد: «ليس الهدف أن تسمع بل أن ترقص».

Sirât (2025)
Sirât (2025)

اشتغال  لاكسي على الصوت يتجاوز وظيفته المعتادة في مصاحبة الصورة أو دعم الأحاسيس وتعميقها أو إثارة الاهتمام، فالموسيقى الإلكترونية الصاخبة المميزة لحفلات الـ Rave في «صراط» رديفٌ لرابط خاص مع الوجود عصبه رقص مسكون ينصهر فيه أشخاص خاسرون ومقصيون في فضاء صحراوي قاحل، وحقيقة تعمي الأبصار من فرط سطوعها. نستذكر مع الفيلم أفلام عظيمة، تنظر فيها الشخصيات إلى نفسها في مرآة الطبيعة الصحراوية القاسية، أهمها «غير الأسوياء» The misfits (1961) لجون هيوستن.

«صراط».. السينما كما الحياة رحلة حسّية
Sirât (2025)

مثل لوبيز الذي يستيقظ في شاحنة وسط مجموعة من الغرباء غير مدرك إن كانت الكارثة التي حلت به كابوساً أم حقيقة، يستبدّ بالمشاهد إحساس بعدم تصديق ما يرى من مفاجآت وانعطافات مغرقة في الجرأة والغرابة في أحداث الفيلم (لن نفصح على أي منها هنا حفاظاً على وقع المفاجأة المهم للذين لم يشاهدوا الفيلم بعد)، يفغر لها فم المتفرج وهو يلتفت حوله ليتأكد من أنه ليس الوحيد في القاعة الذي شاهد ما شاهده للتو. صحيح أن بعض مشاهد مواجهة الأخطار تلامس الإجرائية فتقترب إلى حد ما من أجواء «لعبة الحبّار Squid game»، لكن المخرج لا يفتأ ينفلت منها عبر جماليات غير اعتيادية تنزاح عن سطوة الحبكة وتعود بنا سريعًا إلى شعور الترقب والشكّ الخلّاق.

"صراط"... رقصٌ كابوسي على حافة الفناء
Sirât (2025)

هذا فيلم طريق روحاني وشاعري وعنيف، لا يهاب النظر في عين الشمس، مشكلاً ثنائية مع «ميموزا»، فيلم لاكسي الطويل الثاني المصوّر أيضًا عند سفح الأطلس الكبير، ويشترك مع «صراط» في كونه فيلم طريق، تتكرر فيه ثيمات قافلة الأغراب والموت المحلق فوق الرؤوس، والمرور من المنعطفات الحرجة في المضايق الجبلية مع جثة فوق محمولة فوق الأكتاف، وكأن الشخصيات تعبر الصراط الذي يفصل بينها وبين مصيرها الأبدي. ولعل أبرز دليل على ذلك جملة عبرت من خلالها إحدى شخصيات «ميموزا» عن ورطتها فيما تقول: «نحن داخل شدق عملاق نائم». هذه الجملة يمكن أن تنسحب بسهولة على «صراط». 

Sirât (2025)
Sirât (2025)

في القسم الأخير، وسط طبيعة صحراوية مغربية خلابة ومخيفة في آن، ينزلق الفيلم إلى أجواء «أجرة الخوف The wages of fear (1953)» من دون أي أطماع مادية، اللهم أملٌ ضئيل في غفران يتمثل في عبور صراط تصفه مقدمة الفيلم بجسر حاد ورفيع يفصل بين النار والجنة (رغم أن التقليد الإسلامي يموقعه فوق النار تحديدا ويقطعه المؤمنون ويهوي منه الكفار)، من دون أن تفصّل حقيقةً في غاية الأهمية لأن الفيلم يتمثلها بشكل ضمني، هي أن كل إنسان يمر من الصراط حسب إيمانه وأعماله. فهناك من يمشي فوقه هرولة كخطف البصر ولا يشعر به، ومن يحبو عليه حبوا، ومن يتلكأ حتى يكاد يهوي في النار.

شخصيات لاكسي ليست من الفئة الأولى ولا الأخيرة، هي تحبو وتزحف في رحلة تستشعرها بكل جوارحها وتنطبع في لحمها ودمها، لذا يتمطّط زمن الحكي ونصير في رحلة ميتافيزقية الأبعاد إلى أقاصي النفس الإنسانية وعلى شفير الفناء.  

اقرأ أيضا: «صراط».. السينما كما الحياة رحلة حسّية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق