فاصلة

مقالات

شمعة في أوزندو: أورسون ويلز وقد بلغ المئة وعشرة سنة

Reading Time: 11 minutes

بورتريه على ضوء شمعة

وُلدتُ في السادس من شهر مايو، في اليوم نفسه الذي وُلد فيه جورج أورسون ويلز. وفي كل عام، أجدني أتخيل شمعة عيد ميلاد باسمه أيضًا، شعلة صغيرة لرائد في الفن السابع. 

قد يبدو هذا الارتباط واهنًا، مجرد مصادفة زمنية، لكنه يلامس شيئًا شخصيًا عميقًا. هناك رابط شعري خفي ستظل قصته تومض على أطراف رحلة من أحب في هذا العالم الذي يسمى سينما. 

سأحاول في هذه البورتريه رسم ملامح أورسون كما تعرفت عليه. من الطفولة إلى الشباب المستفز، وصولًا إلى تحققه كشاعر السينما، لا بمعناها التأملي الصامت كما عند تاركوفسكي أو أنجيلوبولوس، بل شاعرٍ من طراز خاص، يصوغ لغته من المونتاج المبتكر، واللعب الساخر، والخطاب المسرحي الفجّ. 

هو بورتريه ممزوج بين التاريخ والتأمل الشخصي الحميم. أتحدث فيه عن حكاية فتى من الغرب الأوسط، أدهش برودواي في الحادية والعشرين، وأذهل هوليوود في الخامسة والعشرين، ليقضي بعدها عمرًا يحاول التوفيق مع توهج نجاحه الأول. تتكشف سيرته بين الانتصارات والانكسارات، وبين العشيقات والمعارك القاسية. وتكشف كسيرة أفلامه عن جرأة في الشكل، وغنى في العاطفة، وإنسانية في العمق. وكأن حياته كانت تردد مقولة كامو: “الفن لا يُولد من الطاعة، بل من التمرد”. 

 شمعة في أوزندو: أورسون ويلز وقد بلغ المئة وعشرة سنة

وُلد أورسون ويلز في السادس من مايو عام 1915 في مدينة كينوشا الأمريكية لعائلة تجمع بين الابتكار والفن. والده مخترع ووالدته عازفة بيانو. في سن مبكرة بدأ يُلقب بـ “الطفل المعجزة” لعشقه المبكر للفن، وقدرته على الرسم والعزف والتمثيل. 

لكنه فقد والدته وهو في التاسعة، وتوفي والده بعد سنوات قليلة إثر إدمان طويل على الكحول، مما زرع في داخله بذور شعور دفين بالفقد، لكنه بالمقابل عزز استقلاليته وعناده وخياله المتقد. 

أحب السحر، وتعلم ألعاب الخفة منذ الطفولة. لم يكن السحر لعبة عابرة في حياته، بل فلسفة جمالية وامتداد لرؤيته الفنية: تلاعب بالزمن، إخفاء للواقع، ومراوغة للحقيقة. كتب لاحقًا: “المسرح، في نهاية المطاف، هو أعظم صندوق سحري على الإطلاق”، وهي فكرة ستنعكس لاحقًا في كل ما قدّمه للسينما. 

رفض المنح الجامعية، وسافر إلى أيرلندا في السادسة عشرة، حيث بدأ التمثيل في “مسرح الغيت” بدبلن بعد أن ادّعى أنه نجم برودواي، وصدّقه مدير المسرح لما رآه من حضور وثقة، مانحًا إياه دورًا صغيرًا كان بداية كل شيء. 

كان هذا أول ظهور مسرحي له، سيتعلم منذ حينها كيف يشكّل الواقع بإرادته وذلك بحيلة سحرية، أو مشهد مسرحي، أو حتى كذبة بريئة. كانت تتشكل منذ حينها صفات ستلازمه طوال حياته؛ خيال خصب، وثقة لا تصدّق، ومزاج متقلب. 

أورسون ويلز

بداية الحيلة الكبرى

بحلول أوائل العشرينيات من عمره، كان ويلز قد اجتاح المسرح الأمريكي والإذاعة بعبقرية جعلت نيويورك تايمز تصفه بـ ”المعجزة”. شارك في عام 1937، وهو في الثانية والعشرين فقط، في تأسيس “مسرح ميركوري” في نيويورك إلى جانب المنتج جون هاوسمان. 

قدّم الثنائي عروضًا طليعية كان أبرزها مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير، التي نقلها إلى سياق معاصر يتمثل في ديكتاتورية خيالية مستوحاة من الأنظمة الشمولية التي سادت أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين. لم تجر أحداث العرض حينها في روما القديمة كما في النص الأصلي، بل صوّر قيصر وأعوانه قادة عسكريين معاصرين يرتدون زيًّا موحدًا وتحيط بهم رموز السلطة القمعية، مما جعل المسرحية تُقرأ كتحذير مباشر من صعود الاستبداد في زمنها. تولّى هو الإخراج وأدى دور بروتوس، مانحًا النص الشكسبيري طابعًا بصريًا أقرب إلى السينما، مستخدمًا تقنيات إخراجية حديثة مثل الإضاءة المسرحية الدرامية، إضافة إلى حركة مُنظّمة بدقة للممثلين (ميزانسين)، مما جعل العرض أقرب إلى مشهد سينمائي حيّ منه إلى عرض مسرحي تقليدي. 

كما أضفى على العرض حرارة سياسية واضحة، إذ لم يكتف بإحياء النص الكلاسيكي، بل استخدمه ليعبّر عن قلق سياسي معاصر، في زمن كان فيه العالم على شفا الحرب، مما أكسب العمل طابعًا احتجاجيًا أيضًا. 

تزوّج في تلك الفترة، للمرة الأولى من الممثلة فيرجينيا نيكولسون، وكان عمره 19 عامًا فقط، لكن صعود نجم أورسون السريع بدأ يُثقل كاهل العلاقة. بدأ نظره “يزيغ” إلى نساء أخريات رغم دعم فيرجينيا له، وارتبط لاحقًا بعلاقة مضطربة مع نجمة السينما المكسيكية دولوريس ديل ريو. كانت تلك بداية سلسلة من العلاقات العاطفية المليئة بالفوضى، والتي غالبًا ما انهارت تحت ضغط طموحه الفني. انتهى زواجه الأول، في عام 1940، وانغمس أورسون تمامًا في أعماله الفنية. 

أورسون ويلز
أورسون ويلز مع زوحته وابنته (1938)

لكن اللحظة التي ستخلّد اسمه إلى الأبد جاءت في مساء الثلاثين من أكتوبر عام 1938، حين قدّم عبر إذاعة مسرح ميركوري وعلى الهواء، نسخة درامية من رواية “حرب العوالم” War of the worlds لهربرت جورج ويلز، لكنه قدمها بأسلوب غير مسبوق من خلال مجموعة من نشرات الأخبار الوهمية التي تحاكي غزوًا فضائيًا حقيقيًا لنيوجيرسي. كان التأثير كارثيًا ومذهلًا في آن. حيث ظن ملايين المستمعين، ممن التقطوا البث في منتصفه، أن الولايات المتحدة تتعرض لهجوم فعلي من المريخ، فانطلقت موجات من الذعر والاتصالات، وحتى محاولات للهروب من المدن. أجاد أورسون الانتقال من الخيال إلى الواقع المزيف بدرجة أربكت تصوّر الناس لما هو حقيقي. كانت هذه اللحظة هي أول إعلان مدوٍّ عن وصول فنان قرر أن يشكك في حدود الحقيقة ذاتها. 

تغطية صحيفة نيويورك تايمز للأحداث بعد البث الإذاعي لفيلم حرب العوالم في أمريكا عام 1938، مع أورسون ويلز خلف الميكروفون.

كشفت حرب العوالم عن عبقريته في فهم الإعلام الجماهيري، وعن جرأته في زعزعة إدراك الجمهور للواقع. لم تكن مجرد مقلب إذاعي، بل إعلانًا مبكرًا في رأيي عن فلسفة فنية ستتكرر لاحقًا في أفلام مثل F for Fake، ما هو الحقيقي؟ وما هو الزائف؟ وهل هناك فرق فعلي؟

قدّمت شركة آر كيه أو RKO Pictures في عام 1940 لأورسون صفقة أسطورية، حيث منحته سلطة مطلقة لكتابة وإخراج وإنتاج والتمثيل في فيلمين، مع تحكّم نهائي في المونتاج، وهو أمر غير مسبوق لمخرج في الرابعة والعشرين، ولم يسبق له أن أخرج فيلمًا واحدًا. 

أما أوروسن، فقد اقترب من السينما ببراءة المتمرد: مخرج ناشئ لم تقيّده بعدُ أساليب الإخراج التقليدية، لذا لم يجد ما يحده أو يفرض عليه شكلًا سينمائيًا. بدأ أورسون رحلة صدامية مع تاريخ السينما وبفيلم سيغيّر كل شيء. 

“المواطن كين” المجد الذي لا يُغفر

كتب أورسون ويلز، وأخرج، وأنتج، ولعب دور البطولة في “المواطن كين Citizen Kane”، بعد أن فُتحت له أبواب استوديوهات RKO على مصراعيها. لم يُطلب منه سوى شيء واحد وهو أن يُذهل العالم. وقد فعل.
يروي الفيلم قصة صعود وسقوط قطب صحافةٍ أمريكي، أدرك الجميع أنه إسقاط غير مباشر على ويليام راندولف هيرست، إمبراطور الإعلام المتنفّذ آنذاك. جسّد أورسون شخصية “تشارلز فوستر كين” بأداء مشحون بالكاريزما والتوتر الداخلي، تتبع الفيلم خلالها تحوّله من شاب مثالي إلى طاغية وحيد يعيش في عزلة قصره “زانادو”. 

أورسون ويلز
Citizen Kane (1941)

لكن عبقرية الفيلم لم تتجلَّ في موضوعه فحسب، بل في كيفية سرده. ابتكر أورسون، بالتعاون مع مدير التصوير غريغ تولاند، أساليب سينمائية رائدة تتجلى في استخدام التركيز العميق، والزوايا المنخفضة غير المعتادة، وتقطيع زمني يعتمد على “رواة غير موثوقين” وهي تقنية سردية سيعود إليها كوروساوا بعد عقد في راشومون. كانت البنية السردية المعقدة والجريئة صادمة بفراداتها حينها. 

ورغم أن الفيلم يتمحور حول الثروة والسلطة، إلا أن سرّه الحقيقي ينكشف في كلمة كين الأخيرة على فراش الموت: “روزبد”. لم تكن تلك الكلمة الغامضة مجرّد لغز بل كانت استعارة عن فردوس الطفولة المفقود، لحظة من البراءة لم تُستعد قط. وكما كتب جيمس موناكو: ” “هوس كين الحنينيّ إلى طفولةٍ يجسّدها اسم ‘روزبد’ هو محاولة يائسة لاسترجاع ما كان ولم يعد. أو ربما ما لم يكن قطّ”.
لا ندري إن كان كين يشتاق إلى ماضٍ حقيقي أم إلى وهم نسجته الذاكرة، لكن الأكيد أن “روزبد” كانت تمثيلًا مؤلمًا لما فُقد، أو كما كتب بازان: “لقد أحاطت مهد أورسون جنيات كثيرات، فلم يتركن له وقتًا ليعيش طفولته حقًا. ولهذا، فإن المواطن كين هو في جوهره مأساة طفولة”. 

لم يكن “المواطن كين” مجرد فيلم، بل كان إعلان ثورة بلغة سينمائية جديدة. رُشح لتسع جوائز أوسكار ونال جائزة أفضل سيناريو مناصفةً مع هيرمان مانكيفيتس. لكن وكما في معظم حكايات أورسون، لم يأتِ المجد دون ثمن. فقد استشاط هيرست غضبًا من تشويه صورته، فاستخدم نفوذه لإيقاف الفيلم، فمُنعت الإعلانات، وتعرّضت دور العرض للتهديد، وشنّت صحفه حملة لتقييد تداوله. وهكذا فشل الفيلم تجاريًا رغم الإجماع النقدي على عظمته، وأُلصقت به تهمة “سُمّ شباك التذاكر”. 

بدأت هوليوود، التي تخشى دائمًا من المتمرّدين، تتعامل معه بريبة. وبينما كان لا يزال في الخامسة والعشرين، وجد نفسه في وضعٍ غريب فقد توجب عليه أن يدافع عن هالة سبقت أفعاله بدل أن يصنع مجده. بدت معركة هيرست وكأنها ليست ضد فيلم بعينه، بل ضد السينما ذاتها كوسيط فنيّ حرّ. 

لم ينتهِ الانكسار هنا. سيتحطم لاحقًا فيلمه الثاني “عائلة آمبرسون العظيمة The Magnificent Ambersons”، وهي دراما شاعرية عن تدهور عائلة من الغرب الأوسط. تحطم الفيلم على يد الاستوديو نفسه الذي منحه ومنحنا فرصة التعرف على أورسون ويلز السينمائي، وأقصد ستوديوهات RKO. فبعد انتهائه من تصوير الفيلم، وبينما كان في أمريكا الجنوبية يصوّر فيلما دعائيًا للحرب، رأت RKO أن الفيلم طويل وكئيب، فقامت بقص قرابة ساعة من أحداثه وأضافت نهاية سعيدة، وأصدرته من دون موافقته.

The Magnificent Ambersons (1942)
The Magnificent Ambersons (1942)

 شعر أورسون بالخيانة. أعلن تبرّؤه من الفيلم، وهاجم تدخل الاستوديو علنًا. فسخت RKO نتيجة لذلك عقده في عام 1943، واضعة حدًا لحقبة وجيزة لكنها مهمة في هوليوود. 

لم يقتصر صراع أورسون مع الاستوديوهات على المحتوى، بل تعدّاه إلى الحقيقة، والملكية الفنية، ودور الفنان. بات يُنظر إليه بعدها كفنان غير منضبط، وكثير الإنفاق، وصعب التعامل، وهي صورة ألقت بظلالها الثقيلة على مستقبله المهني. لا تزال النسخة الأصلية المفقودة من Ambersons تُعتبر من أعظم الخسائر في تاريخ السينما. 

لم يختلف الحال كثيرًا على الصعيد الشخصي، فقد تزوّج للمرة الثانية في العام نفسه من نجمة النجوم حينها ريتا هايورث إلهة الشاشة، لكن طبيعة شخصيته الثائرة لم تتلاءم مع الحياة المنزلية، فغرق في مشاريعه وأفكاره وثوراته الشخصية إلى أن انتهى الزواج في عام 1947. 

سينما من رماد الطرد

أصبح أورسون ومع حلوله الثلاثين من عمره منبوذًا من هوليوود التي مجّدته قبل أعوام فقط. ليبدأ ما أسماه لاحقًا بـ ”سنوات الغجري”. بدأ برحلة سينمائية حول العالم خارج أنظمة الاستوديوهات، ليجد حريته في أوروبا، وعاد إلى شكسبير من جديد. 

بدأ بـماكبث عام 1948، وهو فيلم كئيب، تم تصويره بميزانية صغيرة وديكورات متواضعة. استغرق تصويره ثلاثة أسابيع فقط. لم يبد النقّاد أي رحمة، لكنه لم يتراجع وانطلق إلى مشروع أكثر جنونًا ألا وهو “عطيل Othelos”. 

أورسون ويلز
Othello (1951)

بدأ تصوير الفيلم عام 1948، لكنه عانى من نقص دائم في التمويل. توقف التصوير مرارًا لسنوات، وكان يؤدّي أدوارًا ثانوية في أفلام أخرى أو يقدم عروض ألعاب خفة في الليل لجمع المال ثم يعود إلى التصوير. لم يعرف طاقم العمل أبدًا في أي بلد سيتم تصوير المشهد التالي. خرج الفيلم إلى النور عام 1951، وفاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان 1952. 

كانت اللقطات ساحرة. أثبت الفيلم أن خياله يزداد توهّجًا عندما يعمل في ظروف تعجيزية. أما لمسة الوفاء الأجمل فكانت هي أنه منح دور “ياغو” لصديقه القديم ميشال ماك ليمور، الذي كان قد رآه مراهقًا في دبلن. 

عاد إلى التمثيل خلال هذه الفترة في عام 1949، ليقدم إحدى أيقوناته الخالدة؛ شخصية “هاري لايم” في فيلم “الرجل الثالث The third man” للمخرج كارول ريد. 

ظهر في نصف الفيلم فقط، لكن حضوره كان كافيًا ليُهيمن على الذاكرة. أدى شخصية تاجر السوق السوداء بضحكة ساخرة وذكاء مرعب. ارتجل في هذا الفيلم السطر الأشهر: “كان هناك حروب، ورعب، وجرائم قتل، وسفك دماء في إيطاليا، خلال ثلاثين عامًا تحت حكم آل بورجيا، ومع ذلك، أنجبت تلك الحقبة ميكيلانجيلو، وليوناردو دا فينشي، وعصر النهضة. أما في سويسرا، فقد نعموا بخمسمئة عام من الحب الأخوي، والديمقراطية، والسلام، وماذا كانت الحصيلة؟ ساعة الوقواق!”. كانت تلك جملته، لكنها أيضًا فلسفته الساخرة، فالفوضى، بكل ما تحمله من دماء وخراب، قد تكون رحمًا للعبقرية، بينما الاستقرار الطويل قد لا يُنتج سوى الملل. إنها مفارقة مريرة، قالها ضاحكًا، لكنه كان يعني كل حرف.

The Third Man (1949)
The Third Man (1949)

استمرّت حياته الشخصية في تلك السنوات على ذات النمط، مزيج من الحب، والفن، والترحال. تزوّج في عام 1955، من الممثلة الإيطالية باولا موري، لكن الحب الأكبر في تلك الفترة لم يكن في بيت الزوجية، بل في عيون فنانة شابة كرواتية تدعى أويا كودارو التي تصغره بثلاثة عقود، وكان قد التقى بها عام 1962  وعاش معها بقية حياته. 

الوداع كما يجب أن يكتبه شاعر

عاد أورسون 1958 إلى هوليوود لفترة وجيزة ليخرج “لمسة شر Touch of Evil”، وهو فيلم نوار متشعب الحدود، تدور أحداثه عند حدود المكسيك. وافقت الاستوديوهات على مضض وذلك بسبب إصرار بطل الفيلم تشارلتون هيستون. 

كان الفيلم تحفة حقيقية حيث تعتبر لقطة الافتتاح برأيي الشخصي – وهي لقطة واحدة متواصلة مدتها ثلاث دقائق- درسًا في السينما. أعاد الاستوديو المونتاج كعادته وغيّر نسخة أورسون، وأصدر الفيلم في دور عرض صغيرة، مما دعاه إلى إرسال مذكرة من 58 صفحة يطالب بإعادة النسخة الأصلية دون جدوى. سننتظر عقد ونيف بعد وفاته حتى عام 1998 لنستعيد النسخة الأصلية. لم يفشل أورسون فنيًا قط، إنما فشل في السياسة المحيطة بالفن يقول أحد النقاد. 

بدأ في منتصف الستينيات، مشروعه الأقرب إلى قلبه ألا وهو “أجراس منتصف الليل Chimes at Midnight” وهو توليفة من مسرحيات لشكسبير، تُروى من خلال شخصية “فالستاف” وهو الفارس البدين والشجاع والمُهمّش. لم يرَ أورسون في فالستاف مجرد مهرّج كما قدّمه شكسبير أحيانًا، بل كان نبيلًا تم التضُحِّية به على مذبح السلطة. كتب مرة: “كلما ظننت أنني أقترب أكثر من فالستاف، بدا لي أنه أقل فكاهة”.

كان المشهد الأخير هو جَوهر الفيلم كله، وذلك حين يتقدّم فالستاف نحو الأمير هال بعد تتويجه ملكًا وهو واثق أن صداقتهما القديمة ستظل قائمة، ليُصدم بردّ بارد قاسٍ” “لا أعرفك، أيها العجوز”. لم تكن هذه العبارة مجرد تنكر لصديق، بل إعلان موت رمزي لفالستاف وهي الشخصية التي أحبها أكثر من أي شخصية شكسبيرية أخرى. إنها لحظة تتقاطع فيها السياسة مع الجحود، وتتحوّل الفكاهة إلى مأساة، في مشهد يعدّه الكثيرون من أكثر لحظات السينما إيلامًا وصدقًا. 

عانى الفيلم ماديًا وعلى مستوى التوزيع وتلقى مراجعات نقدية متواضعة، لكنه ظل يردد: “هذا هو فيلمي المفضل. لو أردت الدخول إلى الجنة، سأحمل هذا العمل معي”. أعتقد جازمًا أن هذا الفيلم هو أعظم عمل مقتبس عن مسرحيات شكسبير. 

إيكاروس الذي ضحك وهو يسقط:

لم يتوقف أورسون عن الحلم وعن الكتابة والتخطيط لأفلامه حتى آخر أنفاسه.

كان يعمل لسنوات على فيلمٍ اسمه “الجانب الآخر من الريح The Other Side of the Wind” وهو هجاء قاسٍ لهوليوود السبعينيات. يحمل بنية فيلم داخل فيلم، ويشبِه مرايا مشروخة تعكس همومه المتأخرة. صُوِّر الفيلم على مراحل لأكثر من عقد، متنقلًا بين المواقع وكالعادة عانى من ضعف التمويل. لم يستطع أن يُنجز الفيلم قبل وفاته. خرج هذا الفيلم في عام 2018، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا من وفاته إلى النور، واستعاد العالم صوت أورسون مجددًا، كما لو أنه لم يمت. 

خلال جلسة أسئلة في باريس سنة 1982، أطلق تصريحًا دوّى كصفعة، حين هاجم المخرج إيليا كازان علنًا، بسبب تعاونه مع لجنة مكارثي في الخمسينيات، واعتبر فيلمه “على المرفأ On the Waterfront” “احتفالًا بالمخبر والخيانة”. قال بصوته القوي: “باع كازان كل رفاقه مقابل مكارثي، ثم صنع فيلمًا يمجّد الخيانة!”.

كان ذلك أورسون، بلا مواربة، بلا مجاملة. لا مكان للرمادي في مواقفه. فالرجل الذي قاوم الاستوديوهات، لن يهادن التاريخ. 

وفي العاشر من أكتوبر من عام 1985، توفي أورسون ويلز في بيته في لوس أنجلوس، يقال أنه كان جالسًا يكتب على طاولته. سبقه بفترة قصيرة ظهوره الأخير في برنامج ميرف غريفين، حيث سحر الجمهور، ثم ابتسم، وبدأ بسرد القصص، وضحك، ثم رحل. كان في السبعين، لكنه بدا كما لو أنه عاش قرونًا. 

ربما يكون أورسون، كإيكاروس الذي حلّق عاليًا جدًا، فاحترق بجناحيه من وهج الشمس. ومع ذلك، ظل في سقوطه أكثر بهاءً من كثيرين في ذروة مجدهم. 

الرجل الذي ظلّ يغني: 

أتساءل، في نهاية هذا البورتريه، ما الذي يجعل إرث أورسون ويلز حيًا بحق: هل هو فقط ما ابتكره من تقنيات وأساليب، أم أن هناك ما هو أعمق من ذلك؟

أعتقد أن الأمر يتجاوز ذلك لدرجة جعلت ناقدًا مهما كأندريه بازان يفرد كتابًا كاملًا عنه. لربما يكمن السر في الحكاية نفسها؛ قصة الأمريكي الحر، الثائر، الطفل المعجزة الذي لم ينحنِ للسلطة، ولم يخضع للمال، ولم يتاجر بفنه. رجلٌ متعدد الأوجه، رجل عاشقٌ للفوضى والجمال في آن. اختار أن يكون نفسه في زمن الاصطفاف، وهؤلاء نادرًا ما يُحتفى بهم في زمنهم. 

ارتدى في سنواته الأخيرة عباءة، لا كموضة، بل كبيان عن الفنان الساحر الذي لم يتخلَ أبدًا عن حماسه الطفولي لأن يعرض حكاياته. 

لم يعرف في حياته، كما في فنه، استقرارًا جغرافيًا أو انتماءً خالصًا. كان عالقًا دومًا بين ضفّتين، لا ينتمي تمامًا إلى أيّ منهما. كتب أندريه بازان في توصيفه الدقيق: “سيبقى دائمًا، حتى وإن لم يكن رجلًا ممزقًا، سيبقى رجلًا منقسمًا على الأقل. أميركي في أوروبا، وأوروبي في أميركا”. وقد تجلّت هذه الازدواجية في كل ما قدّمه، من نَفَس شكسبيري مشبع بالفكر الفلسفي الأوروبي (يميل إلى التأمل، والشك، والتعقيد الوجودي)، إلى سينما راديكالية صنعت في هوليوود لكنها لم تُحتضَن فيها. 

أورسون ويلز
أورسون ويلز

كان في نظر كثير من الأميركيين معقَّدًا وغامضًا، وابن الحداثة الأمريكية الجامحة في نظر كثير من الأوروبيين، لكنه ظل في عمق روحه فنانًا بلا وطن يبحث عن حرية لا تمنحها الجغرافيا ولا تمنحها المؤسسة. 

أما أنا فأتخيله في كل سادس من مايو عند بوابة السماء وهو يتحدث عن شكسبير والسحر، ويتسلل بابتسامة كما فعل يوم تسلل إلى مسرح دبلن في السادسة عشرة من عمره، فالرجل الذي قضى حياته يطمس الحدود بين الحياة والأداء، وبين الواقع والخيال لا بد أن يجعل الموت يبدو كمشهد مسرحي أخير. 

قال في “فاء الخديعة F for Fake”: “ستصمت أغانينا جميعًا، لكن ما المشكلة؟ تابع الغناء”. وقد غنى حتى آخر لحظة. 

وأنا إذ أضع نقطة أخيرة في روايتي عن أورسون، أدرك أن الحكاية لم تنتهِ. ففي كل مرة أُشاهد فيها فيلمًا من أفلامه، تعود القصة إلى الحياة من جديد. وسيكون للآخرين حكايا مختلفة. لكل مشاهد حكاية خاصة مع معه، أو ذكرى، أو لحظة تأمل، أو ربما كلمة شكر وامتنان، تشبه تحية جان كوكتو حين قال عنه” أورسون ويلز عملاق بوجه طفل، شجرة تمتلئ بالطيور والظلال، عزلة تحيط بها الإنسانية”. 

اقرأ أيضا: «موجة جديدة».. تحية مهذبة لتاريخ سينمائي عظيم

شارك هذا المنشور

أضف تعليق