فاصلة

مراجعات

«شريط صوتي لانقلاب عسكري».. لماذا لن يصمد أفضل وثائقيات 2024 في اختبار الزمن؟

Reading Time: 7 minutes

تأخرت كثيرًا في مشاهدة هذا الفيلم. قرابة عام كامل منذ عرضه في مهرجان صندانس خلال يناير 2024 ونيله جائزة لجنة التحكيم الخاصة، استمر خلالها «شريط صوتي لانقلاب عسكري Soundtrack to a Coup d’Etat» للمخرج البلجيكي يوهان جريمونبريز في الطواف حول العالم، جامعًا جوائز عديدة من أكبر المهرجانات، وصولًا لوضعه ضمن القائمة الطويلة لجوائز الأوسكار، وسط توقعات بأن يكون ضمن الخمسة أفلام المرشحة للجائزة، بل وأن ينال الأوسكار في نهاية المطاف. 

أخيرًا تمكنت من مشاهدة الفيلم، لأتمكن من وضع يدي بسهولة على أسباب هذا الإعجاب العالمي الواسع، فهذا فيلم مصنوع خصيصًا، وببراعة، كي يعجب جمهور الأفلام الوثائقية. لكنه يحمل في الوقت نفسه أسبابًا مكافئة للتحفظ في الوقوع في حبه، بل واعتبار إنجازه – أيًا كان حجمه – نجاحًا لحظيًا، لن يستمر طويلًا في ظل صعوبة بقاء احتفاظ الفيلم بأثرٍ في الذاكرة يكافئ ما يُمكن أن يحرزه من إبهار خلال المشاهدة.

لماذا أخاطر بهذا الرهان الذي يُمكن جدًا أن يخسر إذا ما تحول الفيلم عملًا مهمًا في تاريخ الأفلام الوثائقية؟ هذا ما سنحاول توضيحه في هذا المقال.

الخلطة السحرية

يمتلك «شريط صوتي لانقلاب عسكري» كل ما يجعله مادة ممتعة للمشاهدة، شكلًا وموضوعًا. انطلاقًا من موضوعه الشيّق الذي يحاول فيه المخرج تقديم صورة بانورامية عن تاريخ تحرر الكونغو (زائير لاحقًا والكونغو الديمقراطية حاليًا) من الاحتلال البلجيكي، ثم انقلاب الغرب على رئيس الوزراء الشاب ذي الميول الاشتراكية باتريس لومومبا وصولًا لاغتياله، مع خطٍ درامي موازٍ حول موسيقى الجاز والبلوز، التي أسسها الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، وعشقها السود في كل مكان حول العالم، لتستغلها المخابرات الأمريكية في محاولاتها لفرض الهيمنة، وللتجسس والاغتيال أحيانًا، على أراضي الدول الأفريقية التي تحررت كلها في وقت متقارب خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

القارة الشابة المليئة بالكنوز الطبيعية تتحرر أخيرًا من ميراث استعماري مفزع امتص ثرواتها وعامل أبناء الأرض كالعبيد لقرون، على رأس كل دولة متحررة حديثًا بطل شعبي شاب يحلم بمستقبل أفضل لبلاده، وروح عالمية من التضامن بين الدول الجديدة في كل أرجاء الأرض، وصلت في القارة السمراء للتفكير جديًا في إطلاق مشروع الولايات المتحدة الأفريقية، الدولة الموحدة التي ستكون أكبر وأغنى بلاد العالم. 

شريط صوتي لانقلاب عسكري
Soundtrack to a Coup d’Etat (2024)

الفيلم يعرض أرشيفًا مذهلًا للفترة التي كان فيها رجال مثل باتريس لوموموبا وجمال عبد الناصر وكوامي نكروما وفيدل كاسترو نجومًا للمرحلة. وجوه شابة مليئة بالفخر بما تحقق والأمل في مستقبل أفضل، لكنها مضطرة للتعامل مع وضع عالمي مأزوم في ذروة الحرب الباردة. الكوكب مقسم معسكرين شرقي وغربي، وعلى كل بلد حديث الاستقلال أن يقرر موقعه ضمن هذا التقسيم. في هذه الأجواء نشأت حركة عدم الانحياز تعبيرًا عن موقف رافض للتصنيف، ليتفاخر المناضل الحقوقي الشهير مالكوم إكس في أحد الحوارات الأرشيفية بأن على الولايات المتحدة أن تأخذ هذه الدول على محمل الجد لأن صوت أي منها يساوي الصوت الأمريكي في الأمم المتحدة!

حسنًا، كلنا نعلم كيف انتهت هذه القصة السعيدة بانهيار أحلام الاستقلالية والوحدة والرخاء، لكن المخرج يوهان جريمونبريز يقدم لنا قراءته في أسباب هذا الفشل، وهو باختصار المؤامرة الغربية المُصاحبة بشريط صوتي من أساطير موسيقى الجاز والبلوز: لويس أرمسترونج وديزي جيليسبي ونينا سيمون وآبي لينكولن وغيرهم.

الموسيقى متورطة ولكن

هل تذكر الصور الشهيرة لملك الترومبيت لويس أرمسترونج عند سفح أهرامات الجيزة؟ المخرج يخبرك إنها كانت رحلة ممولة من المخابرات الأمريكية هدفها ترسيخ الوجود الأمريكي في أفريقيا، مثلها مثل أغلب رحلات نجوم الجاز إلى دول القارة. لا يتهم الفيلم الفنانين بالتآمر، فهم كانوا راغبين بالفعل في مقابلة جمهور القارة وسافروا دون علم بالأهداف السياسية والاستخباراتية لجولاتهم الموسيقية. لا يتهمهم الفيلم أيضًا بالجهل والسذاجة، فهم في النهاية أمريكيون يؤمنون بترسيخ سياسة دولتهم، حتى أنهم أطلقوا على ما يفعلونه «الحرب الرائعة The Cool War» في تحوير ساخر لاسم الحرب الباردة «The Cold War»، بل إن منهم من تحفظ على رحلة غنائية إلى الإتحاد السوفيتي شعر إنها مسيسة أكثر مما ينبغي.

شريط صوتي لانقلاب عسكري
لويس ارمسترونج في الجيزة

الفيلم لا يدين الفنانين أبدًا، بل في الحقيقة يحاول أن يكون خطه الدرامي الموازي هو رحلة وعي نجوم الموسيقى بما تورطوا فيه من مؤامرات قذرة، والذروة التي ينتهي عندها الفيلم هو قيام المغنية آبي لينكولن وعازف الدرامز ماكس روتش باقتحام جلسة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بصحبة مجموعة من المتظاهرين ضد التواطؤ الدولي ضد جريمة اغتيال باتريس لومومبا وتقديم بلاده هدية لنظام موبوتو الانقلابي التابع للغرب.

وكأن رحلة «شريط صوتي لانقلاب عسكري» الدرامية هي رحلة هؤلاء الفنانين الموهوبين من قناعتهم بأنهم يخدمون معسكر الخير إلى وقوفهم في وجه المعسكر ذاته عندما يكتشفون أن فنهم قد تم استغلاله لقمع حركات التحرر الوطني، ومنع بلاد العالم الثالث من تحقيق هدفها الحالم بنيل الاستقلال الحقيقي، في القرار والموارد والاقتصاد، وهو مالا يمكن قبوله لدى الدول الغربية التي قد تُجلي قواتها وتمنح الدول المُحتلة استقلالًا اسميًا، لكنها لن تترك أبدًا منجم الموارد الطبيعية السخي ليقع تحت أيدي الخصوم.

كما أن هناك خط درامي آخر يتوازى مع ما سبق، هو الحوار مع مؤلفي اثنين من الكتب التي أرّخت للفترة، وذكرت الكثير من التفاصيل والذكريات عن استقدام المرتزقة الغربيين لتنفيذ عمليات عسكرية وسياسية في الكونغو، والاقتباسات المختارة من كتابي «بلدي أفريقيا» للناشط أندرى بلوين و«شركة الكونغو المحدودة» للكاتب كولي جان بوفان.

شريط صوتي لانقلاب عسكري
Soundtrack to a Coup d’Etat (2024)

هوس التفسيرات الكلية

هل تشعر أن المواد المذكورة كثيرة جدًا؟ هذا بالضبط أول أسباب التحفظ على النتيجة الكلية للفيلم، والذي رغم قدر البحث الضخم والأرشيف المذهل الذي يمتلكه، وطوله الذي يتجاوز ساعتين ونصف وهو رقم هائل بالنسبة لفيلم وثائقي، إلا إنك لا تستطيع أن تمنع نفسك من الشعور بأن المخرج صمم على طرق موضوعات وأفكار أكثر مما ينبغي، وحاول أن يمزجها معًا بصورة تحمل تفسيرًا للتاريخ وإجابات عن قائمة من الأسئلة المُحيّرة، فخرجت التفسيرات مبتسرة أقرب لنظريات المؤامرة.

قبل قرابة العقدين، وتحديدًا خلال الفترة (2007-2011)، عُرضت ثلاثة أجزاء من فيلم وثائقي حقق نجاحًا كبيرًا بعنوان «روح العصر Zeitgeist»، قام صانعه بيتر جوزيف بجمع آلاف اللقطات والمواقف والشذرات، وصاغها معًا في نظريات مؤامرة ضخمة عن التحكم في العالم وسياسته وإعلامه. الأفلام شغلت العالم وقتها والآن لا يكاد أحد يتذكرها، لأن هذه الأعمال ذات الصياغات الكونية، التي تحاول أن تجمع كل شيء، وتعرضه، ثم تحلله وتفسره في ساعتين تتضمن رؤية للعالم أو التاريخ، قد تبدو مبهرة في شكلها السينمائي وفيما تُمطر به المشاهدين من صور وأرقام ومعلومات، لكنها تفشل دومًا في الاحتفاظ بنفس الأثر بمرور الوقت، لأن العالم والتاريخ ببساطة أعقد من أن يُفسروا في فيلم، حتى لو كان زمنه عدة ساعات.

الشعور الأول هو الانبهار بكل هذه المدخلات، خاصة لمن يعرف عن الموضوع للمرة الأولى كمشاهد أمريكي أو أوروبي شاب لم يسمع من قبل عن لومومبا أو نكروما أو عبد الناصر، وكذلك بالأسلوب الشيق الذي يمزج هنا الأرشيف بالموسيقى بالشهادات والاقتباسات المكتوبة، والذي قد يدفع البعض للاهتمام بموضوع الفيلم والقيام بالمزيد من البحث حوله، وهي بالطبع استجابة محمودة. لكن الشعور نفسه لا بد وأن يقترن ببعض التيه، بصعوبة المتابعة أو امتلاك الوقت اللازم للتفكير في كل هذه المدخلات التي تُعرض متتالية، سريعة، وبلا توقف، وصولًا لنقطة يتوقف فيها العقل عن محاولة التحليل، مكتفيًا مؤقتًا بالمراقبة انتظارًا للرؤية الكلية التي سيُقدمها الفيلم في نهايته.

شريط صوتي لانقلاب عسكري
Soundtrack to a Coup d’Etat (2024)

شياطين وملائكة

الأزمة هنا أن الفيلم يُقدم رؤية منقوصة تمامًا لكل شيء. بدون قصد شرير أو رغبة لدس أي سم في أي عسل، ولكن ببساطة لأن المخرج متعاطف مع طرحه الخاص للقضية، ولأنه كذلك لا يمتلك الوقت الكافي لعرض أكثر من رؤية.

هل كان الغرب – ولا يزال – يسعى لمصالحه ولا يكترث لأي شعارات إنسانية أو حقوقية في سبيل تلك المصالح؟ بالتأكيد، لكن هل كان نيكيتا خوروشوف سكرتير الحزب الشيوعي السوفيتي هو ذلك الرجل خفيف الظل المحب للسلام الذي يدق بحذائه على الطاولة اعتراضًا على التدخل في سياسات أفريقيا ولا يفكر خلال وجوده في الولايات المتحدة إلى في زيارة مدينة ديزني لاند؟ بالقطع لا.

هل تعرض باتريس لومومبا لمؤامرة غربية خوفًا من ميوله الشيوعية ورغبته في التحكم في ثروات الكونغو الطبيعية؟ بالتأكيد، لكن هل تمكن من نجوا من مؤامرات مماثلة وسُمح لهم بفرض السيطرة على بلادهم كفيدل كاسترو وجمال عبد الناصر وكوامي نكروما وأحمد سيكو توري أن يحققوا الرخاء والاستقلال والحرية التي وعدوا بها؟ أم تحول أغلبهم إلى رؤوس أنظمة ديكتاتورية عانت الشعوب تحت وطأتها أكثر مما عانته تحت الاحتلال؟ الإجابة متروكة للقارئ.

Soundtrack to a Coup d'Etat (2024)
Soundtrack to a Coup d’Etat (2024)

سيكون من المبالغة أن نطلب من المخرج أن يعرض كل ذلك في فيلمه، المزدحم أساسًا بما ينوء به أي عمل، لكنه ليس بريئًا أيضًا من اختيار مشاهد واقتباسات بعينها كي تخدم رؤيته. أذكر تحديدًا عرضه مشهد أرشيفي معروف هو خطاب الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد حرب السويس (العدوان الثلاثي)، والذي يرد فيه على وصف الصحافة البريطانية له بأنه كلب، عبر دفع الحضور لترديد ما كتبه شعب بورسعيد على الجدران «Your king is a woma» لينفجر الحضور ضاحكين على العبارة التي تعني وفق الترجمة الحرفية لقاموس الإهانات الشعبية المصري «ملككم امرأة». اعرف التسجيل جيدًا، لذلك اهتممت بكيفية معالجة المخرج لمأزق استخدام ناصر لسباب يحمل بمعايير اليوم إساءة ذكورية واضحة، باعتبار كون الدولة العُظمى محكومة من قبل امرأة في حد ذاته فضيحة يجب عليهم عندها التوقف عن انتقاد الآخرين، لأجد المخرج يتعامل مع الأمر ببساطة مدهشة ويترجم العبارة العربية في الفيلم إلى «ملككم عاهرة Your king is a bitch»!

الحقيقة أن الترجمة قد تحمل معادلًا ذكيًا للمعنى المقصود، فعبد الناصر ومستمعيه ينتمون لزمن آخر لم يكن الناس فيه يفكرون في الحسابات الجندرية والإساءة المتضمنة في العبارات كما نفعل اليوم، لكن قرار المخرج الواعي بتحريف الترجمة تفاديًا للخروج من موضوع فيلمه والانشغال بأمور فرعية هو مثال واضح لهذا التعامل الانتقائي مع التاريخ، لتقديم نسخة ملائمة تمامًا لرأي الفيلم، دون زيادة أو نقصان.

Soundtrack to a Coup d'Etat (2024)
Soundtrack to a Coup d’Etat (2024)

وفي النهاية

لكل ما سبق أقول أن «شريط صوتي لانقلاب عسكري» فيلم ممتع، مصنوع بعناية وحرفة واضحتين، يتناول موضوعًا مهمًا ويفتح الباب لأسئلة قيمة وبحث تاريخي واجب. لكنه لا يتجاوز هذا الدور المفتاحي إطلاقًا، ولا يتحول أبدًا عملًا ملهمًا أو رؤيويًا كما يروَّج الآن له. فيلم جيد لتشاهده وتستمتع به وتفكر فيه، لكن عليك أن تتعامل معه – ومع كل الأعمال المماثلة – بحذر كبير، لأنك قد تُعجب جدًا بها اليوم، ثم تنساها تمامًا في العام المقبل.

اقرأ أيضا: «أحلى من الأرض».. ضحايا غرف الملابس المحكومون بالتعاسة

شارك هذا المنشور

أضف تعليق