فاصلة

مراجعات

«شرق 12» لهالة القوصي…كلّنا في الحلم شرق

Reading Time: 4 minutes

يصعب إطلاق وصف “ديستوبيا” على قصة فيلم “شرق 12” لهالة القوصي، رغم أن كل عناصر الديستوبيا تنطبق عليه؛ الأحداث تدور في منطقة خارج المكان والزمن المتعارف عليهما، وهي “مستعمرة شرق 12” باعتبارها مجتمعًا خياليًا يصعب الإفلات من حدوده. يمارس القائم عليه “شوقي” (أحمد كمال) سلطة مطلقة على مواطنين مغلوبين على أمرهم، لا يملكون حرية القرار والتصرّف. ربما يرجع ذلك إلى أن واقع أغلب المجتمعات العربية يبدو في بعض مظاهره أقرب إلى كابوس، فيغدو المناقض لهذا الواقع هو الحلم.

شرق 12

الحلم في حدّ ذاته يمثل فعل مقاومة ضد كل سلطة استبدادية تسعى لترسيخ الكائن والمعتاد، ويتمثّل هذا الحلم هنا في شخصية الشاب عبده (عمر رزيق) وحبيبته نونّا (فايزة شامة) اللذان يتوقان لتتويج حبّهما بالرّحيل عن المستعمرة. يقاوم عبده صخب الشّمولي وعشوائيته عبر صناعة الموسيقى المتناغمة باستخدام أشياء وأغراض بسيطة، لكن قوتها تكمن في صدقها، على العكس من شوقي المتكلّف الذي ينتحل البطولة المطلقة لوصلات غناء مليئة بالوعود الكاذبة، يؤديها مع كورال راقص على خشبة مسرح يطلق عليه “فيزيون”، وتتخللها تمثيليات انتخابات صورية بين مرشّحين زائفين تتحوّل إلى مهازل. وفي ذلك كناية على دعاية إعلامية تغسل عقول المواطنين، لكن مظاهر الفقر البادية في كل الأرجاء تفضحها، خصوصًا حين يطفح الكيل بأحدهم فيصعد إلى سطح عمارة مهدّدًا بالانتحار احتجاجًا على سوء الأوضاع في مشاهد صيغت بعبثية قاتمة.  

شرق 12

تتجسّد ثنائية “الخوف ـ الحلم” في مونولوج تقديمي، على لسان جلالة (منحة البطراوي) القائمة بوظيفة الحكاءة، يستعيد السرد أجزاءً من ذلك المونولوج بتنويعات مختلفة في مرات متعدّدة داخل الفيلم، لكن كلماتها تكتسي مع توالي الأحداث وقعًا مغايرًا على المشاهد. نستمع إليها وهي تقول: “في ظهر الدنيا وبرّا الزمن: ناس خايفة. والخوف بهلوان جيعان وسجّان. والناس من كثر الخوف خيالهم هرب. وأنا بحكي للناس وبخفّف عنهم”. الجملة الأخيرة تدلّ على تعقيد شخصية جلالة، وعلاقتها الملتبسة مع شوقي. فما تعتبره جلالة “تخفيفًا” عن الناس حين تصف الخيال بكونه دواءً، يبدو في نظر عبده، الذي يثور في وجهها، إلهاءً لهم عن المطالبة بحقوقهم من رجال شوقي الذين يستعبدونهم لقاء قطع من سكر يشكل عملة رائجة، توضح بتفاوت توزيعها واستعمالها من طرف النّافذين مقارنة مع العامة، حجم الفارق الطبقي المهول.

من نقاط قوة “شرق 12” أن الاختيارات الراديكالية التي اتبعتها المخرجة وفريقها في صناعته تشكل – نوعًا ما- امتدادًا لسعي الشخصيات لمواجهة الشمولي والمطلق، بدءًا من فترة تطوير الفيلم وإعداد تمويله التي ناهزت 8 أعوام، رغم أن التصوير لم يدم سوى 22 يومًا، والإصرار على التصوير بشريط خام (16 مم) بالأبيض والأسود، ما منح الفيلم مسافة ضرورية مع الواقع تتفق وطابعه الاستعاري، فضلًا عن تباين وتدرّجات في الصورة يتعذّر إنتاجها على التصوير الرقمي، وهو ما استلزم بعث فريق من التقنيين عاد بعضهم من التقاعد، وإعادة فتح مختبر للتحميض. علاوة على إعادة تسجيل الشريط الصوتي بكل تفاصيله (الحوار، الأصوات، الغناء، الموسيقى، الأصوات المحيطة…) ليبدو مثل انعكاس بصري لحرص عبده في الفيلم على تسجيل أصوات وخلطها بغية اختراع شريط يفضح زيف النظام من خلال التزام الأصالة. ولعل اللقطة الثابتة الطويلة للرقصة البديعة التي تجمعه بنونّا على أنغام موسيقى عصرية تشكل بجمالها وطابعها الارتجالي والمتحرّر تمرّدًا بلغة الأجساد والنّظرات على القيود المفروضة على حبّهما.

شرق 12

ينتمي “شرق 12” لسينما أقرب إلى المناخات من السردية. وينعكس ذلك في طابعه التأمّلي للأجواء بمشاهد ثابتة وطويلة، ومقاربته الخلاقة للفضاء والديكور اعتمادًا على براعة عبد السلام موسى وراء الكاميرا، وخبرة المخرجة في تشييد عوالم وصور ساحرة تتجلى، على سبيل المثال، في مسكن جلالة الزاخر بالتفاصيل والأدوات، فيما تبدو القصة في الغالب كذريعة لاختبار أحاسيس القهر والأمل، الحبّ والكراهية، السعادة والغضب، وكل الثنائيات القصوى التي ينطوي عليها شرط العيش في مجتمع مكبّل. كما أن أداء الممثلين الذي يتسم بانفعالية قليلة؛ تجعلهم أقرب إلى موديل بروسون الباحث عن صفاء السينما من الممثل المتأثر بالكتابة والإعداد المسرحي.

شرق 12

يحيل فيلم القوصي الطويل الثاني (بعد “زهرة الصبار”- 2017) في بعض فصوله وسمات شخصياته إلى مراجع مهمة من سينما التمرّد على الاستبداد مثل “ألفافيل” Alphaville لجان لوك غودار حيث تُمنع الأحاسيس ويُحكم المخالفون بالانتحار، و”المصفوفة” The matrix للأختين وتشاوسكي، حين يبدو عبده بمعطفه الطويل ومختبره الصوتي، مثل مختار يتدرّب على إيقاظ المُدجّنين، بينما تذكّر جلالة بخطابها الحمّال لأوجه كثيرة ورؤيتها السرمدية بالعرّافة “أوراكل”. كما يندرج “شرق 12” ضمن أفلام مصرية مهمّة اتّخذت من الاستعارة وسيلة لفضح آليات الاستبداد مثل “شيء من الخوف” لحسين كمال الذي يتقاطع معه كذلك في اختيار الأبيض والأسود، و”البداية” لصلاح أبو سيف بديستوبيته ومقاربته الفضاء كسجن مفتوح على الهواء الطلق.

شرق 12

لا شك أن اختيار “شرق 12” في برنامج “نصف شهر صناع السينما” للدورة 77 لمهرجان كان، وهو القسم الذي يراهن على اقتراحات متفرّدة وحرية الكتابات السينمائية التي تترجم شاعرية الأسلوب، وجرأة معالجة الشكل أو الموضوع، لم يأت من فراغ. إذ امتلك الفيلم ذكاء صوغ شخصيات بأبعاد مركّبة، ليست شريرة تمامًا ولا طيبة كليًا، وفضاء مسكونًا بهواجس تنعكس ظلالًا تعبيرية فوق الرمال والدخان، كما أن مشهده النهائي يفتح على قراءة متفائلة توازن شيئًا ما طابعه القاتم. بيد أن رهانه الأكثر ربحًا يظلّ على طاقة الموسيقى المعدية، أكثر الفنون قربًا من السينما لاهتمام كليهما بالإيقاع أوّلًا وأخيرًا.

اقرأ أيضا: «جولة كُبرى»… أن تترك نفسك للسينما لتدرك سحرها

شارك هذا المنشور