فاصلة

مراجعات

«شبح مفيد»… من إنسان إلى مكنسة كهربائية!

Reading Time: 4 minutes

فيلم عن الغبار، عن الأشباح، عن الماضي الجارح، عن ذكريات أحبّائنا الذين غابوا… يمكن النظر إلى «الشبح المفيد» للمخرج التايلاندي راتشابون بونبونشاشوك، الفائز بالجائزة الكبرى لفقرة «أسبوع النقّاد» في مهرجان كانّ السينمائي (13 – 24 مايو) من زوايا مختلفة؛ فهو من الأعمال الغنية بالطبقات السينمائية، يفتح الباب أمام تأويلات متعدّدة، وكلّ مقاربة تبدو ممكنة وذات وجاهة.

كلّ ما نراه في هذا الفيلم متجذّر في واقع اجتماعي تايلاندي يطلّ برأسه من الخلف، ومع ذلك استطاع المخرج أن يقدّم واحدًا من أكثر الأعمال ابتكارًا وخروجًا عن الخطّ التقليدي، وذلك بالاستناد إلى الفانتازيا. غير أنها فانتازيا لا تنفصل عن الواقع، إنما تسكنها ظلال الحقيقة، تلامسها ببرودة آسيوية، وفكاهة ساخرة من دون ضحك (Pince-sans-rire). وهذا ما يجعله ممتعًا ومترفًا بالجمال، مزدانًا بلمسات موسيقية تعرف تمامًا متى وأين تدخل. العناصر جميعها تحظى بعناية فائقة: الألوان، المناخ العام، حركة الكاميرا، الإيقاع. كلّ هذا يضمن للمخرج (الذي لا بد أن نحفظ اسمه منذ الآن، كما حفظنا اسم مواطنه أبيشاتبونغ ويراسيتاكول) موطئ قدم في السينما المعاصرة.

تواجه تايلاند أزمة خانقة تتعلّق بتلوّث الهواء، لا سيما بفعل الجزيئات الدقيقة التي تُعرف بـ«الغبار الدقيق»، وهي جزيئات متناهية الصغر قادرة على التغلغل عميقًا في الرئتين والجهاز التنفسي، متسبّبةً بأمراض مزمنة وخطيرة. وتعود جذور هذه الأزمة إلى مزيج معقّد من العوامل، منها حرق المحاصيل الزراعية والانبعاثات الصناعية والازدحام المروري، فضلًا عن الغبار المتصاعد من مواقع البناء.

«شبح مفيد»… من إنسان إلى مكنسة كهربائية!
A Useful Ghost (2025)

انطلاقًا من هذا الواقع، استلهم بونبونشاشوك خلفية فيلمه، مضيفًا إليها عنصرًا ثقافيًا راسخًا في الوعي الجمعي التايلاندي: ثقافة الأشباح. ففي المعتقدات الشعبية، أن الأشباح ليست كائنات خرافية، لها حضور دائم في الحياة اليومية، تحيط بها مشاعر الاحترام والخشية معًا، وتتراوح تصوّراتها بين الخير والشر.

من هذا التلاقي بين أزمة بيئية وثقافة غيبية، يتكوّن نسيج سينمائي غني بالتفاصيل الرمزية والاعتقادات الهامشية. كلّ شيء في الفيلم يكتسب دلالة، حتى الغبار ذاته لا يعود مجرد جزيئات عالقة في الهواء، بل يصبح استعارة لإنسان مسحوق، مهمّش، بلا صوت، يمكن كنسه أو محوه بسهولة بإرادة السلطة الحاكمة. يعلّق أحد شخصيات الفيلم: «لا تطوّر بلا غبار»، في إشارة ساخرة إلى تكلفة التقدّم على حساب الإنسان والبيئة.

أما الشبح، فهو الآخر وجهٌ آخر للغبار. يقول المخرج في الملف الصحافي: «الغبار لا يعترف بالحدود، يتسلّل إلى كلّ مكان، وكذلك الأشباح. لا أحد يرغب بوجود شبح في منزله. الأشباح هم موتى عادوا إلى عالم الأحياء، لا يحترمون قوانين الزمن. لقد رحلوا تقنيًا، لكنهم ما زالوا يقاومون، عبر البقاء بشكل غير زمني في هذا العالم».

«شبح مفيد»… من إنسان إلى مكنسة كهربائية!
A Useful Ghost (2025)

من رحم هذه المعادلة، ينبثق فيلم «الشبح المفيد»، الذي تنطلق أحداثه من مشهد بسيط في ظاهره: شاب يشتري مكنسة كهربائية. لكن ما يبدو شأنًا عاديًا سرعان ما يأخذ منحى غرائبيًا، حين تبدأ المكنسة بالتحرك من تلقاء نفسها ليلًا، فيتبين أنها مسكونة بروح شبح.

وفق صيغة «قصّة داخل قصّة»، يقودنا هذا الحدث إلى تتبّع أصل الحكاية. ننتقل إلى عائلة تدير مصنعًا، حيث نتعرف إلى المالكة وابنها. زوجة الأخير توفيت إثر مرض سببه تلوّث الهواء، وستعود بعد وفاتها… في هيئة مكنسة كهربائية! ما يثير الذعر والغضب في العائلة. وتتصاعد الأحداث عندما يواجه المصنع خطر الإغلاق وسحب الترخيص، ذلك أن شبح زوج المالكة الراحل يعود إلى مصنعه، وكذلك شبح أحد العمّال الذين لقوا حتفهم نتيجة التعرض للغبار. في محاولة يائسة للسيطرة على الوضع، تلجأ المالكة إلى جلسات مغناطيسية تهدف إلى محو الأشباح من ذاكرة الأحياء وطردهم من المصنع.

وهنا، يُطلب من زوجة الابن التي تحوّلت مكنسة أن تلعب دور «الشبح المفيد»، لتساعد في التخلّص من أشباح عديمة الفائدة. هذا الخيط السردي يدخلنا في متاهة عبثية خلّاقة، تتأرجح بين الكوميديا والدراما، بين الرعب النفسي والفانتازيا ذات البُعد الاجتماعي. فيلم تتقاطع فيه الميتافيزيقيا مع الميثولوجيا، وينبثق من حكاية حبّ (بين الابن وزوجته)، تتجاوز حدود الموت في عالم لا يستبعد شيئًا، حيث يعود الأموات للاعتراض على شروط الحياة.

«شبح مفيد»… من إنسان إلى مكنسة كهربائية!
A Useful Ghost (2025)

استلهم المخرج، المتأثّر بشدّة بالسينما الأوروبية — وتبدو في عمله لمسات كوريسماكية واضحة (رغم أنه يذكر جاك ريفيت ومانويل ديه أوليفيرا كمراجع أساسية) — من الأسطورة التايلاندية الشهيرة «ماي ناك»، التي تروي قصّة حبّ محظور بين شبح(ة) وزوجها الحي. هذه الأسطورة، التي شغلت مكانة مركزية في الذاكرة الثقافية التايلاندية، أُعيد سردها مرارًا في المسرح والسينما والتلفزيون، والمخرج يعيد توظيفها هنا بنفَس معاصر وجريء.

يكفي أن نصغي إلى ما يقوله بونبونشاشوك لنفهم الذهنية التي تقف خلف هذا الفيلم: «تايلاند بلد تعجّ بالأشباح، لأن عددًا كبيرًا من الوفيات يحدث من دون نهاية رسمية، وهناك الكثير من جرائم القتل التي لم تُحل، وحالات اختفاء قسري بقيت بلا تفسير. أعتقد أن الفنّانين عمومًا، وصنّاع الأفلام خصوصًا، هم حلفاء الأشباح. نحن نسخّر خبراتنا وأدواتنا ومهاراتنا لنمنح الأشباح صوتًا وشكلًا ملموسًا. وبينما تبقى الأشباح غالباً بعيدة المنال، عصيّة على التجربة المباشرة، فإن السينما تُعدّ الوسيط الأمثل لمنحها هيئة ووجودًا». 

اقرأ أيضا: «قيمة عاطفية»… البحث عن الحقيقة بين فوضى الذاكرة

شارك هذا المنشور

أضف تعليق